قبل عامين اكتشفت هذه المرأة سعادة "بوكر" بطريقة جعلتها تطير، كذلك وصفت "هيلاري مانتيل" الفوز مثل تصادم قطارين، فيما هي تحلق جذلى في الهواء! وبالأمس كانت السيدة التي تداري جسدها المستطيل بسبب المرض الغامض الذي أصابها قد قالت "لا أعلم ماذا أقول… تنتظرون 20 سنة للفوز بجائزة بوكر فتأتيكم جائزتان دفعة واحدة".

واعتبرت أن منحها هذه الجائزة نابع عن "إيمان وثقة" بها، قائلة "أعلم كم أنا محظوظة لأنني أقف هنا الليلة. والآن علي أن أفعل أمرا صعبا جدا، علي أن أذهب وأكتب الجزء الثالث من السلسلة. وأؤكد لكم أنني لا أتوقع أن أقف هنا مجددا".

تعتقد هيلاري ان من فاز بالجائزة هو الملك هنري الثامن، وليس كرومويل السيء!

لم تحاول هيلاري مانتيل رثاء ذاتها في كل ما تكتب، كونها لم تنجب، وتأمل عندما تكتب مذكراتها ان تكون ساخرة أكثر مما هي مغالية.

على الكاتب التخلص من الخجل عند الكتابة بالتركيز على فعل الحواس، هكذا ترى "عندما يعمل الدماغ لا يهم ان كان الجسم عاطلاً!"، يمكن للكاتب ان يخطط في ذهنه، لكنه بمجر الجلوس إلى لوحة مفاتيح الكمبيوتر يتلاشى الوقت للتفكير لصالح العمل وحده. ويتساءل في نهاية الأمر "أواه.. ماذا فعلت؟".

ولم يحدث غير مرتين في تاريخها أن ينال كاتب أرفع الجوائز الأدبية البريطانية لمرتين، فبعد الأسترالي بيتر كاري في العامين 1988 و2001 والجنوب أفريقي جون ماكسويل كوتزي في العامين 1983 و1999. نزل "الحظ الأدبي" على مانتيل "60 عاما" ليلة أمس في لندن بفضل الجزء الثاني من سلسلتها التاريخية "توماس كرومويل" المعنون "ارفعوا الجثث".

وتمنح "بوكر" التي تبلغ قيمتها "80 ألف دولار" أفضل رواية باللغة الانكليزية في الكومونولث وجمهورية ايرلندا.

بعد أن رأت الشيطان في الجزء الأول من سلسلتها الروائية في "ذئب الصالة" هاهي تعيد ما يشبه سيرتها في رواية "ارفعوا الجثث" تعود إلى العام 1535 وتستعيد حياة زوجة الملك هنري الثامن الثانية، آن بولين، التي تعجز عن منحه ابنا. لتتتبع المصير الدموي الذي انتهت إليه.

وقال رئيس لجنة التحكيم السير بيتر ستوتارد ان "مانتيل تستحق هذا التقدير المزدوج استحقاقاً فريداً". مؤكدا أن أعضاء اللجنة توصلوا إلى اختيارهم "بعد تدقيق مطول ومفصل".

وأضاف ان "الرواية الفائزة تعتبر نموذجاً فريداً للنثر الإنكليزي يتجاوز عمل الروائية السابق".

وينتظر مانتيل عملا تاريخيا في الكتابة كي تختتم ثلاثيتها برواية تحمل عنوان "المرآة والضوء" لتواصل بها قصة كورمويل حتى إعدامه عام 1540.

وتنافس على الجائزة هذه السنة خمسة كتاب هم الشاعر الهندي جيت تهاييل عن كتاب "ناركوبوليس" والكاتب الماليزي تان توان إنغ عن كتاب "ذي غاردن أوف إيفنينغ ميستس" والكتاب البريطانيون أليسون مور عن "ذي لايتهاوس" وديبوراه ليفي عن "سويمينغ هوم" وويل سلف عن كتاب "أمبريلا" الذي اعتبر المنافس الأول لكتاب هيلاري مانتيل.

هيلاري مانتيل رأت الشيطان عندما كان عمرها سبع سنوات، نعم رأته كيف يصارع الريح ويتوجه بمحاذاة منزل أسرتها، وترددت عشرين عاما قبل ان تكتب روايتها "ذئب الصالة" لتنال بها المجد الادبي في منتصف عمرها الافتراضي والادبي.

وصف مظهرها ليلة أمس اشبه بامرأة قادمة من تاريخ الألوان والعطر، تجلس مع زوجها الجيولوجي جيرالد، تحتفظ بفرحها للساعات المقبلة.

في روايتها الجديدة "ارفعوا الجثث" كالسابقة "ذئب الصالة"، ما يشبه السيرة التاريخية المفعمة بالعذاب والتعذيب والدسائس والاهانات السياسية والدبلوماسية البدائية في حياة السياسي الانكليزي توماس كرومويل.

وتصف الرواية كرومويل الذي هرب من اسرته عندما كان عمره 15 عاماً، لكنه في الوقت نفسه لايعرف تاريخ ميلاده، بطريقة استالينية فاسدة كشخص عديم الرحمة، ومناور، وطموح في حياته السياسية العامة كما هو في حياته الخاصة.

نتابع وصول كرومويل إلى انكلترا في عمر الاربعين رجل موثوق به، حياته تشكلت من حزمة من الخبرات في فرنسا وايطاليا وهولندا، تسرد هيلاري كل ذلك بطريقة "فلاش باك" هنا وهناك لنتعرف عليه: كان جنديا، وهو تاجر ومحاسب لبنك فلورنسا، تعلم كيف يقدر ثمن اللوحات الايطالية، يتقن العديد من اللغات، ذكي ومقاتل على نحو لاعب سيرك، لكن النهوض الذاتي ليس الدافع الوحيد عند كرومويل. يشمئز من الخرافات التي يواجهها، ويأخذ وجهة نظر مادية بالانغماس في الحياة. يتصرف بعقلية الإقطاعي من النبلاء، في الوقت الذي يسخر فيه من أصله المتواضع.

ولدت هيلاري مانتيل في ديربيشير الانكليزية في السادس من تموز/ يوليو عام 1952، ودرست القانون قبل ان تنتقل للعيش مع زوجها في بوتسوانا ثم المملكة العربية السعودية وتحديدا في مدينة جدة، حيث قضت أربع سنوات كتبت فيها تحقيقاً صحفياً مطولا عن الحياة في السعودية ونالت عنه احدى الجوائز المحلية، ثم عادت للعيش في بريطانيا في منتصف عام 1980 من القرن الماضي.

نشرت هيلاري روايتها الأولى بعنوان "كل يوم هو عيد الأم" عام 1985.

وحصلت على جائزة "وينفرد هولتبي" عام 1989 عن روايتها "فلود"، واختارت صحيفة صنداي اكسبرس روايتها "مكان أكثر أمنا" ككتاب العام 1993، وفي السنة التي تلتها فازت روايتها "تجربة في الحب" بجائزة هوثورندن.

وتعود هيلاري بذاكرتها إلى ثلاثين عاما إلى الوراء عندما كتبت روايتها الاولى "كل يوم هو عيد الأم" عن الثورة الفرنسية وأعيد طبعها عام 1992، وترى أن ثمة مساحة خافتة في ذهنها عن الجوائز، لكن المعالجة المحتدمة والحميمية في آن واحد لحياة كرومويل جعلت هذه المساحة مضاءة جداً.

لا تؤمن هيلاري مانتيل بالحكاية التقليدية عن الأميرة التي تتزوج وتسافر إلى البلاد البعيدة، فكل الانكليز مرضى بداء السفر، لكنها عندما سافرت إلى الشرق اتخذت خطوة بالتحرك إلى الأمام على الأقل في ذهنها.

لم تعد مانتيل إلى السرد التوراتي الشائع في كتابة أعمالها ولم تود أن تكرر الأفلام الوثائقية والمسرحيات وكتب السير التاريخية، كانت تبحث في تلابيب الشيخوخة كما كانت تحاور الطفولة، انطلاقا من طفولتها التي لا تنقصها الوحشة وسمات العذاب.

تعرفت هيلاري على القهر داخل أسرتها منذ إن كان عمرها 11 عاما عندما أطاح الأب بالأسرة برمتها، ولم تره بعد ذلك أبدا، حيث أخذت اسم عائلة زوج أمها، وعانت بعدها من سوء التشخيص الطبي حول إصابتها بمرض في الرحم "كانت مريضة وغير مريضة في وقت واحد، أي تعذيب هذا؟".

ثم تزوجت جيرالد الجيولوجي الذي اصطحبها إلى بوتسوانا ثم إلى جدة في المملكة العربية السعودية.

عندما عادت إلى انكلترا من السعودية منتصف عام 1980 كان عليها أن تعرف حقيقة مرضها، وهو ما دفع الاطباء إلى اعتبارها امرأة متعجرفة لا تثق بتشخيصهم، لكنها لم تكن تدرك طبيعة مرضها هل ثمة ورم في الرحم، وهل ينمو خارجه، هل ستنجب ام لا؟

لكن الكتابة كانت حافزا للاستمرار في الحياة "سر المثابرة، كما تقول، هو الاحتفاظ بدفتر ملاحظات في السرير".

أول شيء تفعله هيلاري مانتيل عندما تستيقظ هو الكتابة، لكنها أحيانا تبقى أياماً من دون ان تكتب، حالتها الصحية السيئة جعلت منها كاتبة، كانت تقاوم المرض بالخيال. لكنها تجيب عن سؤال يتبادر إلى الذهن قبل ان يطلق عليها "بالطبع افضل صحتي على الكتابة".

تفاقمت الأسئلة لدى هيلاري مانتيل عن علاقة الإسلام بالغرب عندما قضت سنوات في مدينة جدة السعودية مع زوجها الجيولوجي جيرالد، كان الإحباط لديها يتصاعد مع تطور الأحداث السياسية آنذاك، وكانت تتساءل مع نفسها "من أنا؟". أما الكتاب فكان الضحية في كل هذه الأحداث، كانت تفكر بقلق عما اذا كانت قادرة ان تكتب شيئاً عن السياسة من دون ان تكال إليها الاتهامات.

كتبت عن تجرتها في مدينة جدة رواية "ثمانية أشهر في شارع الغازية" عام 1988، ثم "اتجاه الريح في جدة" وأصدرت "فلود" 1989، "مكان أكثر آمناً" 1992، "مناخ متغير" 1994، "تجربة في الحب"، 1995، " العملاق اوبراين" 1998، "الكتابة المنزلية في اوروبا" 2002، "التخلي عن الشبح" 2003، "تعلم الكلام" قصص قصيرة 2003، "بيوند بلاك" 2005.

تعالج موضوع الاصولية الاسلامية في رواية "ثمانية أشهر في شارع الغازية" مستثمرة إقامتها بمدينة جدة.

يبدو ان ايحاء الحرب في العراق يثير التساؤلات غير المباشرة في روي هيلاري مانتيل، لكنها لا تود الحديث مباشرة عن العراق، وتكتفي بالتساؤل عما اذا كان احتلال هذا البلد نوع من الغزو التبشيري المسلح؟!

هيلاري أحد الروائيين الذين استثمروا غياب الأب الفعلي عن حياتهم في الكتابة، لتثير دلالة الهوية في حياة الإنسان، وكيف جاء المرض أشبه بنتيجة عن غياب الأب، كانت في بعض الأحيان لا تعرف نفسها بسبب تعاطي العقاقير منذ ان كان عمرها 19 عاماً.

في سنوات دراستها كانت هيلاري غالبا ما تغيب عن المدرسة بسبب المرض، الأمر الذي سبب لها نوعا من الصمت استثمرته لاحقا في الكتابة عندما تحول "البكم" إلى كلام على الورق.

مرضت هيلاري مانتيل في غدتها الدرقية وزاد وزنها أكثر مما ينبغي الأمر الذي جعلها تفقد ملابسها خلال أسبوع واحد! لكنها لم تفقد الأمل في حياتها، وأصبح جسدها كما تصفه أشبه بقطعة أثاث من الدهون "الكاثوليك يرون أن الأسرار المقدسة تأتي من الخارج لتكون نعمة في الداخل".

تنظر إلى جسدها مثل كتاب فكاهي وتضحك، وهي عازمة على رواية ذلك في قصة عن الجسد وتفضلها على كتابة المذكرات.

تقول "سواء كنت كاتبة رواية ام مذكرات، وصلت إلى فهم معين في النهاية، انني ألقي بعض الضوء على خلفيتي وما زال هناك الكثير الذي لا يوصف".

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.