" لو جئت ِ في البلد الغريب اليّ
ما كمل اللقاء ْ
الملتقى بك ِ والعراق على يديّ
هو اللقاء ْ ............... "
-السياب -

بهذا المقطع من قصيدة بدر شاكر السياب - غريب على الخليج - تفتتح الكاتبة العراقية - إنعام كججي - روايتها التي تحمل عنوان - طشاري - الصادرة عن -دار الجديد - في بيروت .. وبدءا ً من العنوان الذي جاء أشبه بالصدمة حيث استخدمت الكاتبة مفردة - طشاري الشعبية - وهي تعني - البعثرة او الشتات - حيث تنتزع " طير اليبابيد " من متون الأساطير .. الطيرالذي يرمز إلى تفريق الأحبة وبعثرتهم في جهات الأرض لتوظفه كمعادل لمعضلتها الإنسانية .. ففي هذه الرواية نواجه بمعالجة روائية تتمرد على التوصيف البنائي الروائي التقليدي .. فليس هناك شخصية مركزية رغم بروز شخصية الطبيبة - وردية - .. بل شكلت كل الشخصيات فريقا ً متآزرا ً يدفع بالبناء الروائي لبلوغ ذروته النهائية .. ويحميه من الترهل .. والسرد المفروض على النص من خارج شرطه الإبداعي .. حتى تلك الشخصيات التي لم تاخذ من الرواية سوى لقطة صغيرة عابرة .. أشبه بلقطة سينمائية مكثفة وقصيرة .. لكنها تفتح مساحات واسعة للتخيل والمعالجة التأويلية .
إن رواية " طشاري " وهي تعالج وضعا ً إنسانيا ً يستعصي حتى على أكثر التقنيات الكتابية تعقيدا ً وعبثية .. وهو الوضع الذي يعيشه الإنسان العراقي .. لذا .. ولكي تؤدي الرواية توصيل هذا الوضع البشري الذي يخرج على أكثر الكوابيس رعبا ً ومأساوية ً .. كان عليها هي الأخرى أن تتمرد على ما وضعه منظرو النقد الروائي أو الدرامي منذ زمن - أرسطو - وحتى أحدث صرعات النقد البنائي الذي يتعكز على - علم اللسانيات - ومتاهات اللغة .
لقد أنجزت - إنعام كججي - رواية يمكن أن تتخلى عن النمط التجنيسي .. حيث نجدها تستخدم السرد
لابمفهومه - الخبري - بل بإفاداته من كل فنون الإبداع مجتمعة ً .. بدءا ً من السرد الروائي مرورا بالمشهد المسرحي .. واللوحة التشكيلية .. والصورة الشعرية المعبرة .. مرورا باللقطة السينمائية.. والموروث الشعبي الشعري المحكي .. وألأمثال المتداولة ..والحكاية المروية .. وفي بعض الأحايين تتخلى عن جميع هذه الركائز البنائية لتقدم لنا معالجة صحفية تستحضرها من عملها في الصحافة .. من هنا نستطيع أن نقول أن ّ الروائية كتبت لنا نصا مؤثرا حد ّ الفجيعة يمكن أن نطلق عليه - رواية اللاّرواية - وهذا ما يعطيها تميزا ً خاصا ً تنفرد به عن جميع من عالجوا - المعضلة العراقية روائيا ً-.
فالإنسان العراقي يعيش واقع - اللاّواقع - .. وحياة اللاّحياة .. إنه يقيم خارج حدود مؤسسة العالم من حوله.. فكيف يتسنى لمبدع عاش - النكبة العراقية - أن يتعامل معها داخل نص إبداعي يعتمد المنطق والمعقول .. ويضع أداته الكتابية فوق موضوعه الذي يخرج على منطقية الأداة .. ومعقولية الواقع ؟.

إن ّ تحليل الكاتبة لشخصياتها يتخطى نمطية التحليل التنظيري الذي وضع منهجه كتاب النقد المتخصص في فن الرواية .. كون هذا التحليل للشخصيات يمكن أن يطبق على روايات تعالج موضوعاً روائيا ً بعيدا ً عما تعيشه الشخصية العراقية .. التي تحتاج الآن إلى استحضار علم نفس واجتماع جديدين خاصين بها وحدها .. لأن معاناة الإنسان العراقي لم يعشها أيّ شعب من شعوب العالم حتى في أكثر أنعطافات تاريخه مأساوية ً وظلاما ً .. لقد نجحت الكاتبة إلى حد كبيرفي تطبيقاتها التحليلية لشخصياتها
نفسيا ًواجتماعيا ً وفق منهج بحثي ذاتي غير ملتزم بقوانين جاهزة أفرزتها مناخات كتابية مختلفة .. وإنما اعتمدت على معايشة فعلية لتحولات الحياة السريعة المرتدة إلى الخلف .. وبهذا استطاعت أن تنجح أيضا في مد ّ جسورها التوليفية التي توحد حركة شخصياتها المتنافرة .. ومما ساعدها على تحقيق هذه المعادلة الصعبة موقفها المحايد سواء الموقف السياسي المؤدلج او الموقف الواقع تحت تاثير منجز كتابي خارج منطقة عالمها المعيش .. إن ّ امتلاك الحرية الفكرية للكاتبة جعلها تتحرك بانفتاح وعفوية أكبر مما منح عملها تلك الحميمية المؤثرة التي تشد المتلقي .. بل وتحوله إلى شخصية مشاركة وفاعلة في الأحداث كونه جزءا ً منها حيث عاشها مكتويا ً بجحيمها داخل الوطن أو منفيا ً عنه .. كذلك يجد القارئ نفسه محاطا ً بعائلة تشده إليها أكثر من آصرة .. فليس هناك من شخصية غريبة مقحمة .. أستحضرت بقصدية من أجل أن تسد فراغا ً .. أو ترمم خللا ً بنائيا ً في النص الروائي .
إن ّ الشخصية الروائية ..وبعد الإنتهاء من كتابة العمل .. تتخلى عن الإنتماء إلى كاتبها والتعلق به ..وتحقق لها اهلا ًومجتمعا ًجديدا ً من القراء .. تماما ً كما يتخلى الطفل عن طوق العائلة عندما يبلغ سن الرشد .. من هنا .. وكلما كانت الشخصية على قرابة ومشاركة وجدانية مع متلقيها نجحت في تحقيق ذاتها الخاصة ومن ثم عبورها إلى الكلي المتسع .
وبما أن ّ الروائي وكما يؤكد نقاد الرواية هو كاتب سيرة ذاتية قبل كل ّ شيء .. فليس في هذا الأمر ما يتناقض مع أيّ إبداع آخر .. فكل نمط إبداعي هو نتاج ذاتي في حقيقته الأولى .. ولأنه -أي المبدع - يمثل العين الرائية التي ترى مالم يقع تحت دائرة بصر الآخرين .. لذا فإنه الأجدر بالتأثر بما يرى ..وبالتالي إنعكاس هذا الأمر بعد إنجازه على متلقيه .
وهكذا قد تكون - إنعام كججي - قد أخذت أسرتها .. أو أسرة قريبة منها .. وقد تكون أسرة عراقية جمعتها فيها صلة ما ..وربما سيرة الكاتبة الذاتية ..ووظفتها في عملها الإبداعي هذا ..فهي في كل الحالات لم تخرج عن فنها الذي تعاملت معه .. وهذا هو سر قربها من المتلقي .. وبساطة وشاعرية وعذوبة وعمق لغتها المستخدمة كأداة لتنفيذ العمل .. إنها البساطة اللغوية التي تعكس بساطة حياة شخوصها .. وعلائقهم الإجتماعية المتفردة .. فبالإضافة إلى شخصية الطبيبة - وردية - المولودة في - الموصل - والتي تعينت حسب قوانين مرحلتها في - الديوانية - حيث تمكث فيها بدل السنة الواحدة عدة عقود لتصبح لهذه الطبيبة مدينتان " مدينة الولادة ومدينة القلب - كما تعبر عنه الكاتبة على لسان شخصيتها .. كذلك هي بقية الشخصيات القريبة منا والمتآلفة معنا حد ّ أن تجعلنا نحسنا جزءا ً من عائلتها لنشاركها المحنة .. فهناك شخصية والدها - اسكندر - وابنتها الطبيبة - هنده - التي هاجرت وزوجها الى كندا ..ولدها - برّاق - الذي هاجر إلى هاييتي .. أبنتها - ياسمين - في دبي .. شقيق الدكتوره الأكبر - سُليمان - الذي كان سببا ً في انتقال العائلة إلى بغداد بعد أن قبل في الجامعة .. لعدم وجود جامعة آنذاك في الموصل ..الصبي الفلسطيني غسان الذي ربته وصار يخدم العائلة في الديوانية شخصيات داخل - الديوانيه - بدءا ً من - متصرف اللواء - رئيس الصحة .. زوجها الطبيب الذي تعلقت به وتزوجته ورحل عن الحياة قبلها ..والعلوية - شذره - التي تنذر لها النساء .. فتقيم معها -وردية - علاقة صداقة - لتشجع النساء على زيارتها .. وهذه لمحة ذكية من الكاتبة .. فبدلا من أن ترى في عمل

هذه - العلوية - خرافة وتدجيلا ً..اعتبرته عاملا روحيا ً يحتاجه الناس البسطاء قبل أن يلتقوا بفوائد العلم ..لذا دخلت إليها الطبيبة من هذا المدخل حتى أنها طلبت بركتها .. وبعد زيارتها - للعلوية - بدأت النساء بزيارة الطبيبة في العيادة او المستشفى .. وصولاً الى المربية -بستانه - التي تكفلت تربية ابنتها ..وحتى مناطق -بغداد- كان لها حضور في تأسيس البنية الفنية لعمل الكاتبة الروائي .. حيث يدخل المكان لابمفهومه الجغرافي التقليدي بل ببنيته الروحية المعذبة التي تجعل القلب دائم التلفت إليه .. والحنين إلى أيامه .. فهناك -حي الغدير- و - نعيريه وقياره - المشتل وكراج الأمانه - كم ساره والفضيليه - وحتى " غجر الكمالية - إلى مجالس - عزاء الحسين - وأغاني - سالم المنكوب - التي كانت تمثل نبؤة لخراب العراق .. وشتات أبنائه قبل عقود من حضور هذا الخراب .. إلى هجرتها وهي في الثمانين من العمر إلى - باريس - لتلتقي بحفيدها - اسكندر- الذي يصنع لها مقبرة - الكترونية - تجمع كل احبة الجدة المدفونين بعيدا عنها والذين لاتستطيع زيارتهم .. والدعاء لهم .. وطلبت منه أن يقيم لها قبرا يتوسطهم .. فما دامت لا تستطيع أن تنام معهم عندما تموت على الأقل أن تنام في مقبرتهم الإفتراضية الألكترونية - هذه .
إن ّ رواية - طشاري - هي رواية الوجع العراقي .. والشتات العراقي ..والحنين العراقي .. كتبت بلغة في غاية الشفافية والجمال .. مما جعلها تنفذ إلى القلب .. لتحرك شجنه ومواجعه .. حد أن تجعلنا نعايش فجيعة شخوص الكاتبة .. ونشارك في حزن العائلة .. التي صارت عائلة كل ّ قرائها ..ومتلقيّ عملها المدهش .. أما نهاية الرواية فتظل مفتوحة .. وقابلة لأكثر من قراءة تأويلية تماما كما هي عذابات الإنسان العراقي التي تظل أشبه بجراح مفتوحة تبحث عمن يخيطها ..ويوقف نزفها الفاجع .. إنها النهاية التي تكثفها علامة استفهام كبيرة .. علامة استفهام تائهة كريح ليلية تائهة .

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.