اختير يوم السادس عشر من يونيو، يوم مولد المفكر الاقتصادي والسياسي العظيم آدم سميث، يوما يحتشد فيه الليبراليون (الحقيقيون) من أجل الدعوة إلى استعادتهم لهذا الاسم الذي سلبه اتجاه سياسي آخر وادعاه زورا وبهتانا.

فعندما تُذكر (الليبرالية) تتبادر إلى الذهنية العربية صورة مختلطة لمجموعة متنافرة من الاتجاهات التي يجمع بينها التشبه بما يدعى في أمريكا بـ(الليبرالية)، وهو مصطلح يشير في هذا السياق إلى من يؤمنون بضمان حرية الناس على المستوى الشخصي لكنهم يمارسون أسوأ أنواع الجبر والإكراه في ميدان الحرية الاقتصادية، بدءا من السياسة الضريبية الفاشلة ومرورا بقوانين الإيجار والحد الأدنى للأجور وانتهاء بالقيود المفروضة على التجارة كرسوم الاستيراد ودعم الصناعة المحلية. وهذه المدرسة السياسية الأمريكية حديثة العهد نسبيا، فهي ترجع إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وتنتهج سياسات شعبوية أطلقها الرئيس فرانكلين روزفلت بعد أزمة (الكساد العظيم)، وهي سياسات تتمحور حول تدخل الدولة كدواء لكل داء، وتضرب عرض الحائط بكل مبدأ اقتصادي أو اجتماعي أو أخلاقي يقف في وجه هذه الوسيلة.


أما الليبرالية الأصيلة فهي ليبرالية آدم سميث وجون لوك وجون ستيوارت ميل وفريدريك هايك ولودفيغميزس وميلتون فريدمان وغيرهم الكثير من الأسماء التي رأت في الحرية الكاملة (شخصيا واقتصاديا) القاعدة التي دأب المستبدون على الانتقاص منها لاستعباد الناس سواء كان هذا الاستعباد واضحا جليا كما في السفن التي كانت تجوب البحار مملوءة بالعبيد، أم كان دقيقا خفيا كما هو حال الملايين التي ترزح تحت وطأة أنظمة سياسية تفرض على شعوبها أنماط عيش محددة بذريعة حماية الصالح العام.

لقد اعتمدت وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية مصطلح (الليبرالية) كما انتحلته جماعات اليسار الأمريكي، ولم يعد هنالك من يتذكر المعنى القديم إلا من يهتم بدراسة تاريخ الفكر السياسي، وقد جاءت الدعوة الأخيرة من أجل الاهتمام بإعادة المصطلح إلى أصحابه الشرعيين (الذين أصبحوا يُدعَون: ليبراليين كلاسيكيين أو ليبرتاريين)، ولكشف الوجه الحقيقي لليسار الأمريكي الذي اختبأ خلف هذا المصطلح كي يخفي سحنته الدميمة التي تتشابه كثيرا مع سحنة أي نظام اشتراكي بائد في أوروبا الشرقية، مع الاختلاف في عدد الضحايا وقساوة المشهد.

أما في العالم العربي فقد جاءت الليبرالية كمحاكاة فاشلة لليبرالية الأمريكية المزيفة، وكانت في معظم أحوالها مجرد قناع يختفي خلفه مجموعة من الشخصيات التي لم تجد لها مكانا في طيف الانتماءات السياسية الشائعة في العالم العربي، ومن هؤلاء: الاشتراكيون الذين لم يعودوا يستطيعون الملاءمة بين ثرواتهم وتشدقهم بالاشتراكية، واليساريون الذين يريدون التزلف للأنظمة الحاكمة، والمفكرون الذين لم يجدوا لهم مكانا في ثنائية السلطة والمعارضة (الدينية غالبا)، والعلمانيون الذين لا يفهمون من العلمانية غير حلق اللحية وشتم الحركات الدينية،… إلخ. وهذا الوضع العربي لليبرالية يزيد الطين بلة، فهو يقدم طبقة مضاعفة من التزييف لمصطلح الليبرالية.

إن العالم العربي، ومنذ اندلاع أحداث الربيع العربي خصوصا، يحتاج إلى الليبرالية الأصيلة بعد سقوط الليبرالية العربية المزيفة في الدول التي شهدت تغييرا في أنظمتها، وإلا فإن الساحة ستكون خالية ليعشش فيها التطرف الأعمى أو الاستبداد المتوحش، وهذا ما بينته الأحداث المتلاحقة في أكثر من بلد عربي. والليبرالية الأصيلة لا تحتاج الكثير من العناء كي تقنع شعوب العالم العربي، فقد كانت هي السبيل الذي انتهجته هذه الشعوب لتدبير شؤونها ومعايشها إبان حكم الأنظمة المستبدة، ويكاد كل مواطن عربي يمتلك تاريخا حافلا بتجاربه في مكافحة سيطرة الدولة على شؤونه اليومية، ناهيك عمن تعرض للإعدام والتعذيب والنفي بسبب ذلك.

والعقبة الكبرى التي تقف في وجه الليبرالية الأصيلة في العالم العربي تتمثل في ثقافة التبعية والاتكالية التي خلقتها الأنظمة الحاكمة لدى قطاع عريض من أبناء هذه المنطقة، فلم يعد البعض يرى غير الدولة مزودا للسلع والخدمات العمومية كالنقل والطاقة والصحة وغيرها، وذلك على الرغم من أن هذه السلع والخدمات العمومية تعاني من رداءة النوعية على نحو يكاد لا تجد له مثيلا؛ لكن عقودا طويلة من التخويف من القطاع الخاص، والتجربة الأخيرة مع القطاع الخاص المزيف الذي أنشأته رأسمالية المحسوبية في العقود الأخيرة، أديا إلى تزعزع ثقة الناس بالقطاع الخاص، مما يتطلب العمل بجد لإزالة المخاوف المتعلقة بهذا الشأن.

إن إرجاع مصطلح الليبرالية إلى أصحابه الشرعيين يأخذ مكانة خاصة في العالم العربي، فالزمن زمن التغيير، والبيئة خصبة، وقد آن الأوان لنثر بذور توجه اجتماعي واقتصادي أصيل يقود المنطقة إلى الازدهار والنمو، والامتناع عن نثر بذور فاسدة أثبتت تجارب الأمم بأنها لا تجلب إلا الخراب والدمار.

 

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.