كتب أحدهم: “الشخص الوحيد الذي أحترمه في هذا البلد، موجود في السجن.” عبارة كهذه كيف يمكن قراءتها؟ أهي إيمان بفكرة البطل المنقذ؟ أم يأس من واقع لا يتغير كما نريد؟ أم هي رؤية أحادية لمفهوم البطل؟ أم هي تقدير ينبع من احترام للسجن ذاته، ليصبح فعل دخول السجن والاعتراض الصارخ على الواقع بطولة ومطلب بحد ذاته، بغض النظر عن مدى امتلاك المعترض لرؤية أكثر فعالية لتحسين شروط الحياة؟ أليس في هذا التقدير - وبقراءة فرويدية - فعلاً نكوصيًا يشابه فرح الطفل باكتشافه للذة قول كلمة “لا” بغض النظر عن عواقبها؟ سؤال أخير حول تلك العبارة: هل تكشف العبارة عن احترام للشخص المذكور، أم للسجن كتجربة حياتية تستحق التقدير؟ أي أهي في حقيقتها احترام للسجن (المناقض للحياة)، أو بعبارة أخرى هي احترام للموت؟

يُقدَّم المناضل باعتباره شخصًا نبيلاً تجاوز أنانية البحث عن متعه الشخصية، ليكرس حياته لتحقيق الأفضل للآخرين. قد لا نختلف حول هذه النقطة، ولكن ما الذي يُدرج تحت بند “يكرس حياته لتحقيق الأفضل للآخرين”؟ هل الفعل السياسي أو الحقوقي المباشر هو المجال الوحيد لذلك؟ وهل الخروج للمظاهرات وحمل اللافتات هي السبيل الوحيد لاختبار نبل الشخص؟ ألا يمكن أن يكون للنضال أطيافًا متعددة، وأيضا لكل مرحلة زمنية شكلها النضالي الأكثر فعالية بما يتوافق مع خصائص كل مجتمع ثقافيًا وتاريخيًا؟ فمثلا، لطالما تساءلت عن مدى جدوى مسيرات الاحتجاج في الشوارع في مجتمعات “الصحن الواحد” كما تُطلق عليها “ليلى أبو لغد”، كمجتمع جماعي النزعة تغلب علية ثقافة الحشمة، بنفس مستوى نجاح مسيرات الاحتجاج في المجتمعات التي تغلب عليها النزعة الفردانية؟

في كتابه “الحياة كسياسة”، يستقرئ “آصف بيات” طبيعة التغيرات السياسة والاجتماعية في الشرق الأوسط، حيث يطرح قراءة مثيرة للتساؤلات حول مفهومي: السياسة والنضال، والتغيير بما يتناسب مع المعطيات الثقافية والتاريخية والاجتماعية لكل مجتمع. فوفقا لأطروحة “بيات”، فإن من يقود التغيير الاجتماعي/السياسي في الغرب هي “الحركات الاجتماعية”، بينما “اللاحركات الاجتماعية” هي الأقدر على إحداث التغيير في الشرق الأوسط، حيث أن لكل منهما خصائصها التي تتناسب مع طبيعة المجتمع. طرح كهذا يفتح الرؤية لفضاءات أوسع لمفهوم النضال. وأعترف حين قرأت - لأول مرة - أطروحة “بيات” هذه، قلت: نعم لعل هذا ما نحتاجه. فهذه الفكرة تطرح تساؤلات عملية على شاكلة: إن كان عيش الحياة - وفقا لبيات - سياسة، فكيف نجعل هذا العيش مُجديًا؟

وبمعنى آخر: كيف نقوم بالحراك أو النضال الفعّال؟ كيف نستطيع إحداث تغيير أفضل في مجتمعاتنا، بالتوفيق بين استلهام تجارب الآخرين وبذات الوقت بما يتماشى مع طبيعة المجتمع والعلاقات السلطوية والثقافة المجتمعية لدينا؟ لماذا لم تنجح بعض المطالب التي رفعها عدد من الناشطين أو من يقدمون أنفسهم كمناضلين، فيما تحققت مطالب آخرين؟ ما هي اشتراطات نجاح أي حملة تطالب بتغيير ما؟ فمثلا، قد نجد بعض المطالب التي يمكن تصنيفها باعتبارها “مطالب اجتماعية”، وبالتالي لا تشكل تحديًا مباشرًا للسلطة السياسية، وبذات الوقت تحظى بدرجة معقولة من القبول الاجتماعي، كما أنها لا تخالف قوانين رسمية واضحة، ومع هذا لم تتحقق هذه المطالب.

هل يكمن نجاح المطالب بخصائص لا ترتبط مباشرة بالمطلب، بقدر ما ترتبط بتوقيتها وطريقتها ورموزها من القائمين عليها؟ وكيف يتم تصنيف هؤلاء الرموز؟ فمثلا، ألم تتم محاولة تهميش إحدى المطالب الاجتماعية مرة لأن القائمات عليها خريجات جامعات غربية، وبالتالي غربيات الهوى، ومرة أخرى باعتبارهن منتميات لطبقة اجتماعية عليا لا تمثل معاناة أغلبية نساء المجتمع؟ لن نحاول اختبار صحة هذه الأقاويل ومحاولة دحضها، فهي آراء قد نسمعها حتى عند أناس بسطاء وغير مؤدلجين، مما يثير التساؤل حول دلالة ذلك؟ فمثلا، في مجتمع “جماعة الصحن الواحد”، وفي ثقافة ترى في صوت المرأة عورة، قد يصبح لخروج المرأة بصوت احتجاجي عال ردة فعل مرتابة أو حتى رافضة، وعندها يتحول الانتباه، لا إلى المطلب وعدالته - وربما حتى بساطته - بل إلى صوت المطالب باعتباره صوتًا غريبًا يريد أن ينقلنا معه لعالم لا نعرفه، ليبدأ الحذر والتشكيك.

ومن هنا، يصبح من الأهمية تقديم قراءات تحليلية لكيفية تعاطي الذهنية الشعبية مع مطالب التغيير، خاصة المطالب ذات الطابع المباشر في محاولة إحداث تغيرات ما، ليقودنا هذا للسؤال: ما هو الحل في حالة كهذه؟ من المؤكد أنه لا يوجد حل واحد وحيد لأي مشكلة مهما صغرت، وبالتالي فلا حلول تطرح هنا بقدر ما هو نقاش حول مفهوم التغيير الاجتماعي، وهل التغيير لا يحدث إلا بشكل دراماتيكي ومباشر وعبر مناضلين صارخين بحدية؟ وهل للمناضل الصارخ قداسة ما، بحيث يتحتم علينا تبجيله دوما والنظر إلى فعله باعتباره فعلاً نبيلاً؟ للإنجليز - على ما أعتقد - مقولة معبرة: “لا تثق بغاضب يريد تغيير العالم هدما”. مقولة كهذه تحرض على تحليل نفسي يقرأ المناضل الحدي باعتباره شخصًا غاضبًا تتملكه نزعة عدوانية يعبر عنها برغبة سادية لهدم السائد. ولكن لن نذهب كثيرا مع هذا القول، فلعل هذا أحد أوجه بعض المناضلين، ولا نستطيع أن نجزم أنها حقيقة النضال والمناضل ذاته.

لأن هذا المقال يتداخل فيه الشخصي مع العام فخاتمة شخصية لن تضر. في لقاء جمعني مع إحدى الشخصيات العربية المناضلة والتي تحظى باحترام عظيم، تفاجأت وقتها أنه وعلى الرغم من إقامتها في الغرب لسنوات عديدة، إلا أنها لم يسبق لها حضور معرض فني أو موسيقي أو حتى إحدى احتفالات المدينة ذات الطابع الثقافي أو العمل الخيري، وكل ما تفعله في نهاية الأسبوع هو الجلوس في البيت وحيدة للقراءة أو النضال عبر الانترنت! أتذكر أنني تساءلت وقتها: المناضل يطالب بتغيير الواقع، فما هو التغيير وشكل الحياة التي يتصورها؟ أي ما هو التصور الذي يحمله هذا المناضل لشكل المدينة وطبيعة الحياة فيها، وعليه يريد مساعدتي بهدم مدينتي لأجل مدينته المفترضة؟

إن كان للحياة طريقين: أحدهما تقوده هذه الشخصية التي أحترمها جدًا، والآخر يقوده فنان على طريقة زوربا، فأيهما سأختار؟ طريقًا يحدد صاحبه بشكل دقيق معالمه، ويصارع بحدية لتحقيق ذلك، أم طريقًا لا يهتم صاحبه بمعرفة الطريق ولكنه يتأمله ليعيش لذة فنية خاصة تمنحها حقيقة وجوده وتواجده في هذا الطريق؟ أيهما أقرب لروح النضال هنا؟ أليس النضال في عمقه هو استغراق بالعيش وشغف بالحياة؟ أفلا يكون عيش جمالية الحياة بكل تفاصيلها نضالاً آخرًا أكثر أصالة من النضال الحدي الذي قد يفقدنا صراخ أحدهم القدرة على عيش وتأمل لذة الحياة ذاتها؟ ولأنها خاتمة ذات طابع شخصي فالخيار هنا شخصي، أي أنه لا أفضلية مطلقة وثابتة لطريقة نضال على طريقة أخرى، بل إن جوهر نجاح النضال هو في تداخل طرق متعددة تبحث عن حياة وفضاء أفضل، لتصبح إدارة النضال بما يتناسب مع العصر والمجتمع وثقافته هي محك تقدير النضال لا شكله.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.