يضم هذا الكتاب أعمال ندوة نظمتها جمعية الأوان يومي 19ـ20 أفريل 2013 بتونس. وقد قامت المنشورات الجامعية بمنوبة بإصداره سنة 2015 بإشراف من الأستاذة رجاء بن سلامة. ويتضمن مداخلات الأساتذة والأستاذات : ستيفان أولف، وناجية الوريمي بوعجيلة، ومحمد الصغير جنجار، وسهام ميساوي دبابي، وكمال عبد اللطيف، ومحمد شريف الفرجاني، وأم الزين بنشيخة المسكيني، وفتحي المسكيني، ومبروك المناعي.


وفي ما يلي النّصّ الذي قدّمت به الأستاذة رجاء بن سلامة هذا المجموع.

لم يعد من الممكن ترك الحياة النّابضة والقضايا الرّاهنة خارج مجال البحث الأكاديميّ بعد أن تحرّك شبابنا وانتقلت مجتمعاتنا، في ما أقدّر، إلى عصر جديد، رغم العراقيل والثوّرات المضادّة، والأشكال العنفيّة واللاّمدنيّة التي جاءت لتعوّض أشكال الاحتجاج السّلميّ المدنيّ في بعض البلدان.

فكيف نكون في مستوى النّقلة التي شهدتها بلداننا من النّاحية المعرفيّة أيضا؟ أنحتاج إلى أدوات جديدة في التّحليل، أم نحتاج إلى وعي أكبر بالأفق الجديد وبالوقائع الجديدة التي تفتحها تحرّكات الشّعوب؟ نحتاج إلى كلّ هذا وإلى المزيد. نحتاج إلى أن نكون في موقع من “يعثر على” بدل أن نكون في موقع من “يبحث عن”، تماما كما قال بيكاسو.

لماذا اخترنا موضوع المقدّس وتوظيفه؟

إنّنا نعيش تحوّلا أو توقا إلى التّحوّل من نظم استبداديّة إلى نظم ديمقراطيّة لا تنسجم مع صيغ الشرعنة العتيقة للفعل السّياسيّ، ومنها شرعنة السّياسة بالدّين، أي توظيف الدّين لخدمة من هم في السّلطة، ومن يدّعون أو يوحون بأنّهم يمثّلون الدّين أو يمثّلون تنويعا حديثا للفرقة النّاجية. ونعيش أيضا، وعلى نحو انعكاسيّ، شتّى أنواع الانفلات وعودات المكبوت، بما في ذلك انفلات المؤسّسة الدّينيّة عن الدّولة، وانفلات دور العبادة عنها. انظروا إلى “جامع الفتح” بشارع الحرّيّة في تونس العاصمة، فسترون لقاء بين انفلاتين : تجاريّ ودينّي، بحيث تنتصب فئة من المتديّنين لرفع علم غير علم البلاد، وللدّعوة إلى نظام غير النّظام الجمهوريّ، ولبيع ملابس وعطور وأدوات يظنّون أنّها ملابس السّلف وعطوره وأدواته. هنا نجد استخداما للدّين في السّياسة وفي التّجارة. والدّين في الفضاء العموميّ، فيما نرى، هو دائما مستخدم من أجل مصلحة دنيويّة، منذ أن كان الملك إلها في عهد الفراعنة، إلى أن أصبح أميرا للمؤمنين أو خليفة لرسول الله عند المسلمين، إلى أن ظهر الإسلام السيّاسيّ المعاصر حركة ترفض الحداثة على أرضيّة الحداثة، وتطلب مستحيلا هو تجسيد الإرادة إلهيّة على ا
لأرض، وتكرّس وهما هو إمكان معرفة الأصل والعودة إليه، وإمكان محاصرة المتعة المنبعثة من الأنثى الأسطوريّة، زارعة الفتنة وحليفة الشّيطان.

نريد أن نفكّر في هذا التّوظيف للدّين. في الدّين والتّديّن عندما يكون قناعا لفعل شيء آخر. في الوهم عندما يستثمر ويتحوّل إلى مؤسّسة كبرى هي اخطبوط من المصالح والتّحالفات، مثل التّنظيم الدّوليّ للإخوان. وربّما سنفكّر في هذا الظّهور المفاجئ للمطلب العلمانيّ في شكل شعارات تطالب بتحييد المساجد عن الدّعاية الحزبيّة أو السّياسيّة، أو تطالب بتحييد “وزارات السّيادة” كما في تونس، أو في شكل انفجارات ثوريّة مصغّرة : “يا مواطن يا مسكين، ضحكوا عليك باسم الدّين”، أو في شكل “درس” يتناقل على شبكة التّواصل الاجتماعيّ “الفايسبوك” : “درس في محو الأمية :

العلمانية لا تعني الكفر، الشيوعية لا تعني الإلحاد و”حركة النهضة“لا تعني الإسلام”.

من أمواج المكبتوتات العائدة، ومن أصوات الإسلام المصطخبة، يظهر مطلب التّحييد والتّمييز على نحو جديد مفاجئ. يعود إلينا المبدأ العلمانيّ الذي طالبنا به، ولكن من مكان آخر لم نكن نتوقّعه.

فهل يمكن أن توجد الدّيمقراطيّة دون أن توجد معها “الدّيانة المدنيّة” التي حدّثنا عنها روسّو في نهاية “العقد الاجتماعيّ”، والتي لا تتعارض مبدئيّا مع الدّيانات والمعتقدات الخاصّة، بل تسمح بوجودها؟ لكنّها تتعارض فعليّا في بلداننا. ألم نشهد صراعا بين مقتضيات هذه الدّيانة الدّنيويّة السيّاسيّة ومقتضيات الإسلام السّياسيّ الذي يرفض قيام الدّيانة المدنيّة ويريد أن يحلّ محلّها؟

شهدنا تعارضا بين مقدّسات وطنيّة ومقدّسات “موازية”. شهدنا تعارضا بين العلم الوطنيّ الأحمر والعلم الأسود المنسوب إلى “التّوحيد”. كما شهدنا تعارضا بين المقدّسات الفلكلوريّة، كأضرحة الأولياء الصّالحين ومقدّسات شبه معولمة أو عابرة للبلدان، نافرة من كلّ مظاهر التديّن الفلكلوريّ.

نريد أن نفكّر إذن في هذا التّعارض بين مقدّسات مختلفة.

في تونس سمحت لنا الظّروف الجديدة بموضعة قضيّة المسّ بالمقدّسات : أي بإخراجها من جيشان العواطف في الصّدور ومن صيحات الغضب والغيرة على الإسلام إلى مجال النّقاش العموميّ حول مسألة “تجريم المسّ بالمقدّسات”. هذا التّجريم كان مطروحا في شكل فصل من الدّستور أو مشروع قانون، اقترحتهما كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسيّ. والاثنان تمّ التّراجع عنهما. في الأثناء، حاولنا أن نتساءل: ما معنى المقدّسات وما معنى المسّ بها؟ وما حدودهما؟ لم يكن هذا النّقاش متاحا في السّابق، وهذا هو الجديد المجدي. تعارضت إرادتان: إحداهما تعتبر حرّيّة التّعبير مقدّسة والأخرى تعتبر المقدّسات فوق كلّ حرّيّة. شهدنا اعتداءات على المبدعين على وقع التّكبير. تكبير ردّ عليه الفنّانون في الكثير من التّظاهرات بهتاف: “تعبير!”، غشارة إلى حرّيّة التّعبير. وفي النّهاية لن يكون هنالك فصل يطالب بتجريم المسّ بالمقدّسات ولن يكون هناك قانون يجرّم المسّ بالمقدّسات. ويمكن أن نقول إنّ المبدعين بصدد ربح معركتهم لإثبات وجودهم وحقّهم في التّخييل والفكاهة. لقد نجحوا هذا العام في الاحتفال باليوم العالميّ للمسرح يوم 27 مارس 2013 بعد أن منعتهم جحافل السّلفيّة في اليوم نفسه
من سنة 2012، بل نجحوا أحيانا في تحويل الذّكريات السّيئة إلى احتفالات بالفنّ والحياة. هذا ما حدث في قليبية : فقد حاول بعض السّلفيّين منع محاضرة للأستاذ يوسف الصدّيق عن التّعصّب في ربيع سنة 2012، فتحوّل التّاريخ نفسه إلى مهرجان سنويّ يقيمه الأهالي في حديقة عموميّة. مع ذلك، ربّما لا نكون بمنأى عن قيام معركة أخرى بين “أهل التّكبير” و“أهل التّعبير” تقوم مجدّدا حول “المقدّسات”. الضّباب الانتقاليّ قد يدوم.

لِنَعد إلى الوراء قليلا. إنّنا نعيش منذ ثمانينات القرن المنصرم على وقع صيحات فزع وخوف على المقدّسات من “المسّ” : إحراق ألف ليلة وليلة والفتوحات المكّيّة بمصر سنة 1985، فتوى هدر دم سلمان رشدي سنة 1989، الكاريكاتور “المسيء للرّسول” سنة 2006، الفيديو المسيء للرّسول في السّنة الفارطة... في كلّ هذه الأزمات تلتهب المشاعر الدّينيّة، أو يتمّ توظيفها. توظيف آخر إذن يدلّ على هشاشة وخوف وعجز عن استيعاب مطلب الاختلاف والحرّيّة. حاولت أن أبيّن في دراسة سابقة أنّ الشّعور بإمكانيّة إهانة الإسلام والذّات الإلهيّة تصوّر جديد تماما، لا نكاد نجد له أثرا في التّقليد.

نريد أن نفكّر في أسباب الهشاشة المعاصرة. ما الذي حدث؟ هل هي ردّات فعل على ما سمّاه نيتشه بموت الإله، وما سمّاه ماكس فابار ((Weber ثمّ مرسال قوشيه (Gauchet)بـ“فكّ السّحر على العالم” وظهور المرجعيّات المختلفة وتعدّد أنظمة الحقيقة؟ أليست كلّ تجربة معيشة اليوم هي تجربة “ما بعد”، ما بعد الضّربات النّرجسيّة التي مثّلتها الدّاروينيّة، ومثّلها اكتشاف كوبرنيك واكتشاف اللاّشعور مع فرويد؟ فالأديان كلّها كانت تقول خلاف ما جاءت به هذه الاكتشافات : كانت تقول إنّ الكون مسخّر للإنسان، وإنّه محشوّ بالحكمة، وإنّ الإنسان عاقل وإمّا آثم أو بريء. طبعا لا يعني هذا زوال الأديان، بل ربّما يعني ضرورة تدبّر منزلة المؤمن في هذا “المابعد”. ما هي صفات المسلم الأخير الأكثر انسجاما مع المابعد، ومع الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان؟

لقد تكرّرت مظاهر “المابعد”، فبعض الخبراء في الحركات الإسلاميّة يتحدّثون عن “ما بعد” 11 سبتمبر، وما بعد الإسلام السّياسيّ... والمشكل هو عدم التّناغم بين أعمار الأفراد وأعمار الأفكار والأوهام. فقد يستمرّ المابعد عقودا طويلة، فيقيم الإنسان في الفاصلة دون أن يقيم، رجْلا هنا ورجْلا هناك كمسلم الوعي الشّقيّ، أو عينا على الحداثة وعينا على رفضها مثل حالنا أمس واليوم في مواجهتنا لحركات الإسلام السّياسيّ.

ولكن هل تعود كلّ أزمات التّديّن إلى الحداثة وإلى هذه “المابعادات”؟ هناك أعراض لهذه الأزمات، هناك تركيبة معيّنة لانفلات المقدّس من الأطر التي تضعه فيها الأديان المؤسّسة : يحلّ الإله في الفضاء العامّ، ويحلّ في محلّه الذي يجب أن يبقى فارغا بشرٌ يريدون حمايته، ويتّخذ الإله صورة الأنا الأعلى الشّديد القسوة، فيظهر وجه ما يسمّى بـ“الإله المكفهرّ”. الإله المكفهرّ إله يفرض التّضحية وإراقة الدّماء، ويزرع شعورا بالذّنب لا حدّ له، فتتقلّص مساحة المباح والمندوب والمكروه، ومساحة اللّهو والإبداع والفرادة، ويكتسح التّحريم كلّ الفضاءات، وقد يضحّي الإنسان بأخيه الإنسان بديلا من الكبش، فتنقلب الآية، بل تنقلب كلّ الآيات، وتصبح الأطر التّقليديّة للدّين غير قادرة على كبح جماح المتديّنين. هذه الأعراض التي نعتبرها أزمة اليوم، ها أنّ المؤرّخين يصفونها في حديثهم عن ظاهرة الحنابلة : يقول ابن الأثير الجزري عن فتنة الحنابلة في سنة 323هـ : “عَظُم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون من دور القوّاد والعامّة، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنيّة ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، ومشى الرجال مع النساء والصبيان، فإ
ذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه مَن هو، فأخبرهم، وإلاّ ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة، وشهدوا عليه بالفاحشة، فأرهجوا بغداد.”

نجد في هذا الوصف لحنابلة بغداد في عشرينات القرن الرّابع الهجريّ ملامح أليفة : طابع الإفراط والعنف “المليشياويّ” في التّديّن، وكره اللّهو وكسر آلاته، والرّغبة في تسليط العقاب على البشر في الدّنيا قبل الآخرة، ومنع الاختلاط بين النّساء والرّجال. نضبف إلى ذلك ما بيّنه المؤرّخون من اعتماد الحنابلة على الطّبقات المسحوقة لكسب الأنصار، ومن ذلك تعويلهم على “عميان المساجد” لاضطهاد الخصوم، كما ذكر ابن الأثير في المصدر نفسه.

هل يصحّ أن نقول، وهل يستقيم علميّا أن نقول : ما أشبه اليوم بالبارحة؟ هناك أزمات نموذجيّة متكرّرة، مثل أزمة التّأثّم التي يفيض فيها التّديّن المفرط عن الدّين المؤسّس، أو عن دين الدّولة، ولكن مع ذلك، لا يمكن أن يشبه اليوم البارحة تماما، وإلاّ فقدنا القدرة على الدّهشة المعرفيّة والبحث الذي يعقب الدّهشة.

أخيرا، نريد أن نتساءل عن علاقة المقدّس بالتّحريم. أليس التّحريم انحطاطا للمقدّس وحدّا منه واختزالا له؟ بحيث يحلّ سلبيّ المقدّس المبنيّ على الرّهبة والخوف محلّ “إيجابيّه” المبنيّ على نوع من المحبّة لما يتجاوز الإنسان، ونوع من الخشوع الجماليّ أمامه؟ أيّ الجناحين من المقدّس يسهل توظيفه ويتمّ توظيفه اليوم؟ فربّما يكون المقدّس السّلبيّ التّحريميّ أقرب إلى أدبيّات توظيف الدّين في السّياسة، والمقدّس الإيجابيّ القائم على المحبّة والجمال أقرب إلى مجالات التّصوّف والفنّ.

أكتفي بهذه الأسئلة، حتّى أفتح الشّاهية إلى المداخلات التي ستتجاور فيها الأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع والتّاريخ وتاريخ الأفكار والفلسفة، وستتوسّط كلّ هذا المباحث الشّعريّة والجماليّة.



 
*********************************

رجاء بن سلامة: أستاذة تعليم عال بكلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات، جامعة منّوبة، منسّقة فريق البحث في “الأنواع الاجتماعيّة والذّاتيّة” في مختبر “نحو الخطاب وبلاغة التّداول”، محلّلة نفسيّة ومديرة موقع الأوان www.alawan.org. من مؤلّفاتها : العشق والكتابة، دار الجمل، كولونيا، 2003، Gender, Key-words, New-York, Other Press, 2004. (كتاب جماعيّ)، في نقد إنسان الجموع، دار الطّليعة ورابطة العقلانيين العرب، بيروت، 2008، بنيان الفحولة، دار بترا، دمشق، 2005، دار المعرفة، تونس 2006، نقد الثّوابت، دار الطّليعة ورابطة العقلانيين العرب، بيروت 2005، صمت البيان، القاهرة، المجلس الأعلى للثّقافة، 1999، الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاريّ ومسلم، تونس، دار الجنوب، 1997. من ترجماتها : الإسلام والتّحليل النّفسيّ، فتحي بن سلامة، دار السّاقي ورابطة العقلانيين العرب، لندن 2008.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.