العلمانية ترجمة للمصطلح الإنجليزى Secularism  ، بمعنى الدنيوى أو الواقعى (من الدنيا و الواقع) فى مقابل : المقدس أى الدينى أو الكهنوتى , النائب عن السماء المحتكر لسلطتها. ومعنى المصطلح هو تدبير العالم من داخله و ليس بشريعة من ورائه.

و العلمانية كنزعة فى تدبير العالم  وكمذهب فى المرجعية الدنيوية لشئون البشر لا يمكن فهمها -و من ثم فهم الموقف الإسلامى منها-  إلا من خلال ملابساتها الأوروبية.

ظلت المسيحية لقرون ديناً لا دولة , شريعة محبة لا تقدّم للمجتمع مرجعية  قانونية أو نظام للحكم , فهى فقط تبشّر بخلاص الروح و تدع ما لقيصر لقيصر ولا شأن لها بسلطان الأرض.

ثم حدث أن تجاوزت الكنيسة الكاثوليكية حدود رسالة الروح ومملكة السماء فاغتصبت السلطة الزمنية (سلطة الحكم) بجانب السلطة الروحية , و دخلت المجتمعات الأروبية مرحلة الجمود و الإنحطاط (التى عرفت بالقرون الوسطى أو المظلمة). و تم تقديس الدولة و الأباطرة الذين يباركهم البابوات , و جمدت الدنيا و العلوم.

ثم حدثت ثورة علمانية فجرتها فلسفة التنوير الأوروبى , أعادت الكنيسة لدورها الأول : خلاص الروح , و جعلت العقل و التجربة, لا الدين و اللاهوت , المرجع فى تدبير شئون الحياة. فعزلت السماء عن الأرض انطلاقاً من فلسفة أن العالم مكتف بذاته و بظواهره الطبيعية دون الحاجة لرعاية إلهية.
فالعلمانية هى جعل المرجعية فى تدبير العالم إنسانية خالصة , دون تدخل من شريعة سماوية.

و قد ساعدت المسيحية ذاتها فى هذا التصور الجديد , فالتصور المسيحى يدع ما لقيصر لقيصر, و يقف بالدين عند حدود مملكة السماء و خلاص الروح, دون أن يقدم شريعة للمجتمع و الدولة.
إن العلمانية عزل السماء عن الأرض , و الدين عن الدنيا , و إحلال الإنسان محل الله فى العمران البشرى.

وفود العلمانية إلينا فى ركاب الغزوة الاستعمارية:

كانت غزوة بونابرت لمصر هى بداية الغزوة الاستعمارية الحديثة, و قد تميزت عن الحملات الصليبية باستهدافها إحتلال العقل وإستبدال الفكر و تغيير الهوية , مع إحتلال الأرض و نهب الثروة.

و لأول مرة ظهرت كلمة “علمانية” فى المعجم الفرنسى العربى الصادر عام 1828م والذى وضعه “لويس بقطر” المصرى الذى خدم جيش الإحتلال الفرنسى بمصر ثم رحل معه ليدرّس العامية المصرية فى باريس.

و فى كل بلد وصله الإستعمار الغربى , أخذ يحلّ العلمانية تدريجياً فى تدبير الدولة و المجتمع و يضع القوانين الوضعية , بدلاً من الشريعة الإسلامية التى كانت متّبعة.

و تحدث عن هذا “عبد الله النديم” قائلاً : “إن دولة من دول أوروبا لم تدخل بلداً شرقياً بإسم الاستيلاء , و إنما تدخل بإسم الإصلاح وبث المدنية , و تنادى أول دخولها بأنها لا تتعرض للدين ولا للعوائد , ثم تأخذ فى تغيير الإثنين شيئاً فشيئاً , كما تفعل فرنسا فى الجزائر وتونس , حيث سنتّ لهم قانوناً فيه بعض مواد تخالف الشرع الإسلامى”.

بل إن تسلل القانون العلمانى الغربى إلى مؤسساتنا القضائية والتشريعية  قد سبق أحياناً الإحتلال العسكرى المباشر , كما حدث فى عهد “الخديوي سعيد” بإنشاء المحاكم التجارية , ثم المحاكم القنصلية ثم المحاكم المختلطة. وحذّر منها “رفاعة الطهطاوى” منادياً بالعودة للمعاملات الشرعية الإسلامية.

ثم جاء الإحتلال الإنجليزى وعممّ القانون الأجنبى فى عموم القضاء المصرى. فلم يمرّ عام على الإحتلال حتى كانت القوانين قد تعلمنت وإنفصلت عن الشريعة الإسلامية.

و كما نادى “الطهطاوى” بالإصلاح بالإسلام , سار على دربه “محمد عبده” فكتب أنه لا إصلاح بأى طريق منفصل عن الدين (رافضاً الإصلاح العلمانى).

 

الأصول الإسلامية لرفض العلمانية:

كان التصور المسيحى هو الذى فتح الباب لرد الفعل العلمانى على إستبداد الكنيسة , و لكن الأمر ليس كذلك فى السياق الإسلامى.
يقدّم الإسلام تصور لنطاق عمل الذات الإلهية بأنه خالق كل شىء , و مدبّر كل شىء. وحتى داخل نطاق قدرة الإنسان , فالإنسان خليفة لله لكنه يدبر بإرادة إلهية وبتكليف شرعى وبإلتزام بالشريعة , و كعبد لسيد الوجود و ليس كسيد لهذا الوجود.

فللّه فى التصور الإسلامى الخلق و التدبير.

و جعل لنا الله الإستخلاف فى إستعمار الأرض , و الشورى فى التدبير للعمران , والإرادة والقدرة لإقامة الدين و صناعة العمران وصياغة الحياة.

و كذلك تميزت فلسفة التشريع فى النسق الإسلامى – سواء فى مبادىء الشريعة ومقاصدها والتى هى وضع إلهى- أو فى فقه معاملاتها – الذى هو إبداع الفقهاء المحكوم بمبادىء الشريعة و قواعدها و حدودها- تميزت فلسفة التشريع فى الإسلام عندما ربطت المنفعة بالأخلاق , و المصلحة بالمقاصد الشرعية , و سعادة الدنيا بنجاة الآخرة , فأغلقت الباب أمام القانون الوضعى العلمانى. فالمصلحة فى القانون الإسلامى هى المصلحة الشرعية المعتمدة , و ليست مطلق المصلحة. و المنفعة فى الإسلام ليست اللذة أو الشهوة أو مطلق المنفعة  بالمعايير الدنيوية.

و يتحدث المستشرق “ديفيد دى سانتيللانا” عن الفرق بين العلمانية  والمرجعية الدينية قائلا : “الخضوع للقانون الإسلامى هو واجب إجتماعى و فرض دينى فى الوقت نفسه , ومن ينتهك حرمته لا يأثم تجاه النظام الإجتماعى فقط , بل يقترف خطيئة دينية أيضا”.

و لذلك كانت المقاومة الإسلامية لإنفلات “الدولة” من “الدين”, و لتحرر “المجتمع” من “الشريعة”.
فالقرآن يحسم المرجعية الإسلامية للدولة الإسلامية فى سورة النساء: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)

كما أكّد رسول الله المرجعية الدينية فى الصحيفة التى مثّلت دستور المدينة الأول : ” و ما كان بين أهل هذه الصحيفة من اشتجار يخشى فساده فمردّه إلى الله و إلى محمد”

و هو نفس ما ذكره “أبو بكر الصديق” فى أول خطاب له بعد البيعة: ” أطيعونى ما أطعت الله و رسوله, فإن عصيت الله و رسوله فلا طاعة لى عليكم”.

و الدولة الإسلامية لها نمط فريد , ففيها تجتمع المرجعية الدينية و سيادة الشريعة مع سلطة الأمة و نيابة الدولة عن الأمة, و بذلك تبرأ من سلبيات دولة الكهنوت وسلبيات العلمانية المنفصلة عن الشريعة.

المتغرّبون العلمانيون:

أما من قالوا* أن السياسة شىء و الدين شىء آخر, فهم الذين قد نظروا إلى الإسلام بمنظار مسيحى, فسوّوا بين الإسلام و المسيحية  فى علاقة الدين بالدولة و بالسياسة. و اعتقدوا خطأً أن الخلافة الإسلامية كهانة مستبدة تحكم بالحق الإلهى المقدس !

لقد شوّهت المناهج الغربية رؤاهم و زيّفت وعيهم فرأوا الإسلام نصرانية, والخلافة كهانة و الشريعة قانوناً رومانياً , ثم رأوا الحل العلمانى هو الطريق للنهوض كما كان فى سياق النهضة الأوروبية.

* يتحدث الكاتب هنا عن “طه حسين” و “على عبد الرازق” , و قد بيّن الكاتب الدكتور “محمد عمارة” فى كتب أخرى له أنهما الاثنين قد عادا عن آرائهما.

 

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.