الاقتصاد السياسي علم أوروبي النشأة، والنكهة. ظهر كي يفسر ظواهر(جديدة!) على المجتمع الأوروبي. ظواهر لم يألفها، بل لم يعرفها من قبل، أو هكذا صور المفكرون الرسميون الأمر: الآلة. السلعة. الإنتاج من أجل السوق. الهدر الاجتماعي. الرأسمال. الرأسمالي. القيمة الزائدة. المصنع. بيع قوة العمل. الأثمان. المبادلة النقدية... إلخ؛ فكان من المتعيّن ظهور العلم المفسر لهذه الظواهر والكاشف عن قوانينها الموضوعية. ولذا ظهر الاقتصاد السياسي كعلم هدفه البحث في ظواهر نمط الإنتاج الرأسمالي. وبعبارة أكثر دقة: هدفه البحث في القانون الموضوعي الَّذي يحكم الإنتاج والتوزيع ونمو الاقتصاد وتطور قوى الإنتاج في المجتمع. هذا القانون هو قانون القيمة. وحينما يمسخ هذا القانون، أو يحرَّف تخريباً أو تخريفاً، يتوقف الحديث عن الاقتصاد السياسي ويُستدعى (علم!) الاقتصاد الَّذي يتجرعه علقماً الطلاب في المدارس والمعاهد والجامعات في العالم الرأسمالي المعاصر بوجه عام، وفي عالمنا العربي بوجه خاص، ومصر بالأخص. وتكمن المأساة في استمراء الخلط الفج بين الاقتصاد السياسي والاقتصاد، بل في الكثير من الأحيان، كما سنرى، يتم تلقين نظريات"الاقتصاد"بداخل كتاب كتب على غلافه الخارجي: مباديء/محاضرات في الاقتصاد السياسي!
(2)
خلال قرنين من الزمان(1623-1871) تبلور الاقتصاد السياسي ونضج كعلم اجتماعي انشغاله المركزي نمط الإنتاج الرأسمالي (ابتداءً من قانون القيمة) في الإنتاج عند آدم سميث، وفي التوزيع لدى ديفيد ريكاردو، وفي هيكل النظام لدى ماركس. لكنه توقف عن التطور بعد صدور المجلد الثاني من كتاب رأس المال الَّذي أنجزه ماركس، المفكر لا الصنم، وراجعه فريدريك إنجلز عام 1885 في هامبورج. عدا بعض الدراسات والأبحاث الجادة (إيمانويل، أمين، أوتار، براون، بتلهايم، فرانك، سنتش، على سبيل المثال بالطبع) إلا إنها لم تصل لمستوى الحديث عن استكمال علم لم يكتمل، ومن هنا كذلك، لا اعتبر إطلاقاً التيار الفكري الَّذي سوف يتربع على عرش الفكر الأكاديمي التابع للمؤسسة السياسية امتداداً لعلم الاقتصاد السياسي، بل اعتبر ذلك التيار، وهو ما سنراه أدناه، ممثلاً لفن جديد يستلهم بعض الأفكار العامة جداً من علم الكلاسيك. أي على العكس تماماً لما يقولونه للطلبة الَّذين يتم إعدامهم فكرياً كل صباح!
فكما علمنا أن ماركس تلقى علم الكلاسيك وحاول أن يستكمل بمقتضاه الاقتصاد السياسي، ولكنه كان أكثر قسوة، في النقد، من أسلافه الَّذين مفصلوا حول القيمة جملة من القوانين الَّتي تتيح فهم النظام وتطوره عبر الزمن. وفي الوقت الَّذي كانت فيه شوارع أوروبا تغلي بالثورات العمالية، في أواسط القرن التاسع عشر، كانت المؤسسة التعليمية الرسمية (الجامعة الأوروبية) تعد العدة للحرب الفكرية المضادة!
- ما الَّذي يريده هؤلاء الثوار من العمال في الميادين والمصانع والساحات؟
- إنهم يريدون حقهم في القيمة الَّتي أنتجوها وذهبت إلى جيوب الرأسماليين والريعيين والمرابيين.
- ومَن الَّذى قال لهم مثل هذا الكلام الخطير الَّذي سيطيح بعروش أباطرة المال؟
- مَن قال لهم ذلك هو علم الاقتصاد السياسي.
- حسناً!
القيمة! فلنمسخ القيمة. فلنقل لهم أن القيمة تقاس بالمنفعة. وليس بعرق العمال!
الاقتصاد السياسي! فلنفرغه من محتواه الاجتماعي!
فلنخرب العلم!
ولنجعل من الاقتصاد السياسي علماً معملياً. فلنحوله إلى رموز ومعادلات وأحجبة وطلاسم!
فلنصرف الأنظار عن المحتوى الطبقي والموضوع الثوري لهذا العلم!
فلنجعله على أرفف التاريخ!
ونستبدله بعلم، أو هكذا نقول للناس، آخر. يخلو من الوعي بمعنى الحياة والهدف منها!
ولنسم ذلك (علم الاقتصاد)!
وذلك هو الَّذي حدث تماماً مع تيار النيوكلاسيك، وفي المقدمة: فون ثنن (1783-1850)، وكورنو(1801-1877)، وهيرمان هينريخ جوسن (1810-1858)، وستانلي جيوفنز (1835- 1882)، وكارل منجر (1840-1921)، والفريد مارشال (1842-1924)، وفون فايزر (1851-1926)، ويوجين فون بوهم بافرك (1851-1914)، ولودفيج فون ميزيس (1881-1973)، وفريدريك هايك (1889-1992).
(3)
وسنكون حاسمين في عدم الخلط بين الاقتصاد السياسي الَّذي كف عن التطور، بل اختفى من الوجود الأكاديمي والحياتي اليومي، وبين (علم!) الاقتصاد(2) كفن تجريبي مهيمن على فكر المؤسسة التعليمية وفكر المؤسسات النقدية والمالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي. نقول ولأن كتابنا مخصص للاقتصاد السياسي كعلم نمط الإنتاج الرأسمالي المتمفصل حول قانون القيمة؛ فلن ننشغل بنقد موسع لهذا الاتجاه في أبحاثنا الراهنة، ونكتفي هنا بتأكيد اتفاقنا مع ما عبر عنه د. سمير أمين، وببراعة، في أطروحة باريس عن التراكم على الصعيد العالمي بشأن (العلم!/الفن) الجديد الَّذي طغى على المؤسسة التعليمية الرسمية؛ إذ رأى أن فناً "للتسيير" وليس"للاقتصاد" هو الَّذي يركن إليه منظروا الرأسمالية والإمبريالية العالمية، لكنهم يغلّفونه بغلاف العلم إمعاناً في التدليس والتضليل! كتب د.سمير أمين:"مات العلم الاقتصادي الجامعي إذاً كعلم اجتماعي ميتة العجز لصرفه النظر عن النظرية الموضوعية للقيمة. لكنه خلّف وراءه فناً في التسيير. فالملاحظة التجريبية للارتباطات القائمة بين الظاهرات تتيح صياغة جُعبة من تقنيات العمل تتفاوت في مدى فعاليتها. فبمقدار ما تكون مفاهيم العلم الحدّي، الَّتي تدعي الأزلية لنفسها، مستقاة من ملاحظة نمط الإنتاج الرأسمالي. بمقدار ما يكون بوسعها إتاحة المجال لصياغة فن في التسيير الاقتصادي، وهو فن لا شك في عيبه ونقصانه لأنه يقوم على الملاحظة الوضعية بلا نظرية، سواء على الصعيد الميكرو/اقتصادي فن تسيير المؤسسة أو على الصعيد الماكرو- اقتصادي (فن السياسة الاقتصادية الوطنية) فالتحولات البنيوية داخل نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه، تجعل فن التسيير هذا أمراً لازماً. طبيعة الإشكالية في هذا الفن تصعيد بعض المقادير الاقتصادية إلى حدّها الأقصى، الربح، أو الإنتاج، تحت وطأة بعض الصعوبات المعينة لا سيما صعوبات ندرة الموارد في زمن معين، وفي نظام معين (هنا نمط الإنتاج الرأسمالي، الَّذي غالباً ما يصار إلى إهمال ذكره) تحول دون أن نرى في هذه المجموعة من التقنيات بديلاً للعلم الاجتماعي: فالفن ينبثق عن علم، ظاهراً كان العلم أم ضمنياً، والعلم المضمر هنا هو العلم الحدّي. إن أدلجة ما هو اقتصادي وحدها، وهذه هي الاقتصادوية، هي الَّتي تتيح انشاء علم من ما لا يمكن أن يكون علماً على الإطلاق".
(4)
فمع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تبلورت أفكار المدرسة النيوكلاسيكية، والَّتي تسوق خطأ على أساس من كونها امتداداً لأفكار الكلاسيك، وكي تقوم بتصفية العلم، علم الاقتصاد السياسي، من محتواه الاجتماعي. بل ولا ضرر كذلك لديها من عزله عن العلوم الاجتماعية الأخرى، فـ(علم!) الاقتصاد بالنسبة للتيار النيوكلاسيكي هو علم معملي، والعلاقات الاقتصادية المتمثلة في الإنتاج والتداول والتوزيع، بين أفراد المجتمع إنما هي علاقات بين الأشياء المادية، وليست اجتماعية.
وعلى ذلك، يؤسس هذا التيار الفكري، الَّذي سيكون تياراً جارفاً في المؤسسة التعليمية الرسمية، فكرة المنفعةكمركز تدور في فلكه جُل العلاقات الاقتصادية بمفهموها الَّذي لا يرى سوى علاقات بين الأشياء المادية الخاضعة للمعادلات الرياضية والدوال الخطية والرسوم البيانية.
وبتلك المثابة يكون التيار الفكري النيوكلاسيكي قد قام بتقديم موضوعاً غير مسبوق للعلم، علم الاقتصاد السياسي، يعتمد على تفسير هزلي للقيمة؛ إذ المبدأ الأساسي عند النيوكلاسيك هو أن المنفعة مقياس القيمة، وهو المبدأ الَّذي يناهض، كما رأينا، ما قال به الكلاسيك، وديفيد ريكاردو بوجه خاص، الَّذي اشترط المنفعة في السلعة كي تكون محلاً للقيمة التبادلية. فالمنفعة، عند الكلاسيك، شرط القيمة. وليست، كما يقول النيوكلاسيك، مقياساً لها.
فالقيمة عند النيوكلاسيك تتعلق بنفسية المستهلك؛ فهي نقطة البدء الَّتي على أساسها لا تتحدد قيمة السلعة فحسب، وإنما يتحدد التوزيع ذاته؛ بعد أن تم تعميم مبدأ المنفعة أيضاً على عناصر الإنتاج. لاحظ: عناصر الإنتاج، وليس قوى الإنتاج. إذ تعطي كلمة "عناصر" دلالة على انفصال (الأرض) عن (قوة العمل) عن (الرأسمال) عن (التنظيم). ومن ثم انفصال (الريع) عن (الأجر) عن (الفائدة) عن (الربح) وبالتبع نفي التناقض بين قوى (عناصر) الإنتاج، ومن ثم نفي الصراع بين دخول الطبقات الاجتماعية المختلفة المشاركة، وغير المشاركة، في عملية الإنتاج الاجتماعي! وبالمناسبة؛ إن مَن يتحدثون في (الاقتصاد الإسلامي!) يتكلمون بلغة النيوكلاسيك مزخرفة ببعض الأيات والأحاديث، وفتاوى السلف الصالح!
القيمة إذاً، وفقاً للنيوكلاسيك، لم تعد سمة للأشياء، كالحجم أو الوزن. إنما يقيم الأفراد السلع المختلفة على نحو متباين باختلاف الأوقات والأماكن. فالقيمة هنا لا تكمن في ما بذل من عرق في سبيل إنتاجها إنما هي فقط في عقول الأفراد. تكمن القيمة في عقل المشترى.
ومن ثم فالشيء نفسه تتباين قيمته في نظر مختلف الأشخاص؛ فالناس، وفقاً للنيوكلاسيك، مثل المضاربين بالأسهم، يعتقد أحدهم أن هذا هو الوقت المناسب للشراء، بينما يرى الآخر أن هذا هو الوقت المناسب للبيع!
فالقيمة إذاً صارت مسألة متعلقة بالتقدير الشخصي. صارت من قبيل الأمور الوجدانية. الخلط إذاً واضح تماماً بين قيمة الشيء ومنفعته. ربما تتباين المنفعة من شخص إلى آخر. وذلك من طبائع الأمور. ولكن القيمة لا يمكن أن تتباين إلا إذا تم تمييع مفهومها وتم خلطه بالمنفعة مسخاً لمذهب الكلاسيك. من هنا يكون القول بأن النيوكلاسيك لديهم نظرية في القيمة هو من قبيل اللغو؛ فلم يكن أبداً لهم نظرية في القيمة، إنما هي نظرية في المنفعة، تحاول تمييع مفهوم القيمة. ولم يكن أبداً لهم نظرية في القيمة التبادلية، إنما هي نظرية في ثمن السوق. ومن هنا نستسخف كثيراً انشغال الأساتذة. أساتذة الاقتصاد في الجامعات. بحشو دماغ الطلاب بكلام مرسل سيال عن "نظرية القيمة عند النيوكلاسيك"!
(5)
وإذ ما أردنا الحديث في تفسير غير أيديولوجي، بالمعنى الإيجابي، للأسباب الَّتي أدّت إلى ظهور هذا التيار، فيمكننا أن نبدأ تحليلنا من حيث الاهتمام المركزي للكلاسيك. الاهتمام الَّذي تحدد بإشكاليات النمو والتطور والإنتاج وتوزيع الدخل، وكان ذلك أمراً مفهوماً ومبرراً؛ فقد ظهرت الآلة على المسرح الاجتماعي بمنتهى الوضوح والفاعلية وجعلت من جميع العلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع علاقة تبدأ وتنتهي حيث الآلة؛ الأمر الَّذي يستدعي ظهور التفسير العلمي لهذه الظواهر الَّتي أخذت في التبلور آنذاك.
أما النيوكلاسيك، فإن دائرة التبادل، وإنما ابتداءً من الاستهلاك، هي مجال الانشغال الأساسي، وفي حقل التبادل، لدى النيوكلاسيك، يظهر أشخاص هم من قبيل الرجل الاقتصادي، الرشيد الحكيم، الَّذي يسعى إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من الإشباع لحاجاته، ولكنه حال سعيه هذا تحكمه الحاجات المادية غير المحدودة ويريد إشباعها بأشياء مادية محدودة، ومن هنا لم يجد النيوكلاسيك بدّاً من دراسة العلاقة بين الإنسان والأشياء المادية دراسة كمية تهمل المظهر الكيفي للظواهر.
ارتبط التغير الفكري الَّذي صاحب النيوكلاسيك بالتغييرات الاقتصادية والاجتماعية الَّتي حدثت في دول غرب أوروبا على وجه التحديد، إذ مرت هذه الدول بمرحلة من الركود (أزمة الهيكل) وصار الاعتقاد بأن الاهتمام بالنمو والتطور ليس ضرورياً كما فعل الكلاسيك، إذ أن النمو، في تقدير الغالبية من مفكري النيوكلاسيك، يتم من تلقاء نفسه دون حاجة جدية لدراسته وتفسير ظواهره على الصعيد الاجتماعي. ولكن المهم هو استخلاص قواعد اقتصادية تنطبق في كل زمان ومكان، وفي كل مجتمع، وبغض النظر عن علاقات الإنتاج فى هذا المجتمع. كما ارتبط التغير الفكري الَّذي قاده هذا التيار بما لحق الواقع الاجتماعي على الصعيد الثقافي، إذ انتشر الخطاب العلمي والسعي من أجل فهم الكون بشكل مادي، استناداً إلى العلوم الطبيعية والرياضيات؛ استكمالاً للرغبة الجماعية في التحرر من صنمية الفكر ووثنية الرأي الَّذين فرضا الظلام على القارة بأسرها طوال قرون من الجهل والفقر والمرض والثيوقراطية وادعاء امتلاك الحقيقة، وهو الأمر الَّذي انعكس على كتابات النيوكلاسيك، فرغبوا في الابتعاد عن لغة العلوم الاجتماعية الَّتي قد تؤدي، وسوف تؤدي، إلى التعرية الطبقية وإبراز الصراع الاجتماعي بين قوى الإنتاج، واتجهوا بقوة نحو القياس الكمي عن طريق التعبيرات الرياضية، واستعاروا أيضاً بعض الألفاظ، والأفكار، من العلوم الطبيعية، وظهروا أكثر ميلاً إلى تجريد الظواهر الاقتصادية! وقادهم ذلك إلى النظر إلى علمهم (الجديد) كعلم منفصل عن العلوم الاجتماعية والسياسية، والسياسية بصفة خاصة، الأمر الَّذي عنى فصل علم الاقتصاد عن دائرة التاريخ والعلوم الاجتماعية، وصار ينظر له على أنه علم طبيعي بحت يحوي نظريات ثابتة قابلة للتطبيق دائماً، حالها حال ما يتعلق بالعلم المعملي.
جاءت المدرسة النيوكلاسيكية، وقد وجهت سهام النقد العنيفة جداً لكتابات ماركس، بل ولبعض أفكار الكلاسيك نفسهم، وبصفة خاصة إلى نظرية القيمة، ولكي تقدم موضوعاً جديداً كما ذكرنا (لعلم!) الاقتصاد، رغبة في نسف التحليل الطبقي الَّذي أعطاه ماركس!
(6)
ابتداءً من النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، طرأت على المدرسة النيوكلاسيكية تغيّرات واضحة؛ فلقد تحول اهتمام التحليل من الجزئي إلى الكلي، من تحليل توازن المستهلك والمنتج، إلى تحليل توازن الاقتصاد القومي. جاء هذا التبدل كبلورة لما أسهم به ليون فالراس (1834-1910) في استخدام تحليل التوازن الشامل بكيفية لم تكن معهودة من قبل، وبطريقة خاصة في التحليل باستخدام مجموعة من المعادلات الرياضية البحتة في محاولته للبحث عن التوازن الاقتصادي العام بدراسة جميع العوامل الَّتي تتضافر معاً لتحديد سلوك المنتج والمستهلك في السوق. وهو يدرس، رياضياً، أثر كل هذه العوامل في نفس الوقت.
وقد ظلت هذه التحولات في حقل التيار النيوكلاسيكي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي محصورة في مجال النظرية الأكاديمية، والمراجع والمؤلفات العلمية. أما على الصعيد السياسي الاقتصادي فلم يكن لها أدنى تأثير، فخلال تلك الفترة كان مذهب مينارد كينز (1883-1946) يشهد قمة انتصاراته وطغيانه الفكري، واضعاً ما عداه من مذاهب وأفكار في الزوايا المعتمة، فحتى نشوب الحرب العالمية الأولى، كان مذهب الحرية الاقتصادية سائداً إلى حد بعيد في الأوجه المختلفة للنشاط الاقتصادي.
ولكن ما أن اندلعت نيران الحرب، حتى تبدَّلت الأحوال وتغيرت التصورات؛ فخلال الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين(1919-1939) وهي الفترة الَّتي زاد فيها تركز الرأسمال وتمركزه، وتبلورت فيها الاحتكارات الصناعية الضخمة، إعلاناً عن بداية سيادة المشروع الرأسمالى في شكله الدولي، تعرض النظام الرأسمالى للعديد من التوترات، بدءً بثورة العمال في ألمانيا عام 1918، ثم أزمة الديون والتعويضات الَّتى فرضتها معاهدة فرساي عام 1919، ثم أزمة الكساد الكبير عام 1929، وبروز الحرب النقدية والتكتلات الاقتصادية، ثم انهيار قاعدة الصرف بالذهب... ومن ثم كان طبيعياً ظهور الكينزية، في زمان الأزمة في شكلها الدوري، ونظريتها الَّتي تعتمد على وجوب التدخل الحكومي بوصفه عاملاً مساعداً في تحريك الاقتصاد الَّذي كف عن السير، بعدما لاحت في الأفق أزمات متتالية.
(7)
في ظل هذه الهيمنة الكينزية، كان هناك تيار فكري يتكون في أحضان التيار النيوكلاسيكي، هو تيار النقديين بقيادة م. فريدمان (1912-2006)، الَّذي سيتزعم حملة ضارية في مواجهة الكينزية، كي ينتهي الأمر باختلاف جذري، وتواري للسياسة الكينزية، وظهور التيار النيوكلاسيكي المطور. تيار النقديين. الَّذي سيلقى تطبيقاً رسمياً في الفترة من 1979 حتّى 1984، وبصفة خاصة في المملكة المتحدة بزعامة مارجريت تاتشر (1925-2013) والولايات المتحدة الأمريكية برئاسة رونالد ريجان (1911-2004)، ولم تكن النتائج سارة على الإطلاق؛ إذ تعمق الكساد، واستفحلت البطالة، وانخفض الميل الاستثماري، وازدادت الضغوط التضخمية، نتيجة للزيادة الواضحة في عرض النقود، بالإضافة إلى إضعاف المركز التنافسي للاقتصاد داخل السوق الرأسمالية العالمية. ويخرج عن إطار بحثنا هنا معالجة هذه الإشكاليات.
(8)
وما يهمنا هنا هو توضيح طبيعة ومحتوى(العلم!) الَّذي يلقن للطلاب في المدارس والجامعات. على الصعيد العالمي وكيف تم الانتقال من علم يوضح ويكشف إلى فن يخفي ويطمس. من علم اجتماعي إلى فن معملي. وكيف تم تسويق هذا الفن وبصفة خاصة في الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالي المعاصر، وعالمنا العربي في مقدمة هذه الأجزاء بتفوق! ولأننا سوف نرى في الفصل القادم كيف يتم الإعدام الفكري للطلبة، فسنكتفي هنا بمراجعة، موجزة بطبيعة الحال، لانعكاس هذا الانتقال والتحول من علم الاقتصاد السياسي إلى فن التسيير على واقع نظرية التخلف، فهي ما ينبغي، كما ذكرنا سلفاً، أن تمثل المحل الدائم لانشغالنا، في عالمنا العربي.
فمن العبارات المألوفة والَّتي عادة ما يتم تداولها في الندوات والمؤتمرات وعلى المنصات الإحتفالية للمؤسسات المهتمة بمشكلات الوحدة العربية، وللعجب نجد العبارات نفسها يتم تداولها في بعض الندوات والمؤتمرات والفعاليات الفكرية والثقافية الّتي تنظمها الأنظمة السياسية الحاكمة، والمؤسسات الرسمية في الأقطار العربية، تلك العبارات الَّتي تقول: أنه يحق لكل عربي مؤمن، بل وحتّى غير المؤمن، بالقومية، ووحدة المصير، والهدف المشترك، أن يندهش، بل ويسخر حزيناً متألماً، حينما يجول ببصره على خريطة عالمنا المعاصر، ومهما أن كانت الخريطة الَّتي ينظر إليها، سياسية، جغرافية، طبيعية،... أو حتّى صماء؛ فلسوف يدرك على الفور أن هناك شيئاً مستنكراً غريباً يحدث على أرض الواقع؛ إذ أن تلك المساحة الشاسعة الهائلة على الخريطة والَّتي تحتل نحو 10% من يابسة الكوكب؛ وتسمى بالعالم/الوطن العربي، لا ينقصها أي شيء من الموارد البشرية والإمكانيات الطبيعية والمادية، حتّى تنطلق نحو التقدم. نحو حياة أفضل. نحو خلق حياة كريمة للأجيال القادمة، ومع ذلك لم يزل وطننا العربي (متخلفاً) تابعاً على الرغم من أن الاستعمار، الَّذي كان حُجة المتحججين، قد انقشع منذ عشرات السنين، ولم يزل الوطن العربي مكبلاً بقيود التخلف! فلماذا؟ وإلى أي حد؟ وكيف الخروج من هذا الأَسر؟ وهل هذا من الممكن إنجازه؟
اعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها من الأسئلة المرتبطة بوجودنا الاجتماعي ذاته كعرب، بل كبشر، تتعلق بمدى وعينا بالأمور الخمسة الآتية:
1- إن غالبية المساهمات النظرية، وما يعرف بـ (التراكم المعرفي) في حقل تحليل ظاهرة التخلف الاقتصادي العربي، بوجه خاص، لم تستطع أن ترى ظاهرة التخلف إلا من خلال بيانات المرض، والفقر، والجوع، وإحصاءات الدخل والناتج والتوزيع والتضخم،... إلى آخره. ومن ثم يصير الحل لدى هذه المساهمات، وهي المعتمدة رسمياً، للخروج من الأزمة، أزمة التخلف، هو التركيز على النداء، وأحياناً الصراخ، باتباع السياسات"الرأسمالية/الحرة" الَّتي تتبعها الدول الَّتي لا تعاني من الفقر المرض والجوع؛ لكي تخرج البلدان المتخلفة من الفقر والمرض والجوع!
2- وهو ما يترتب على أولاً، إن غالبية المساهمات إنما تنتهي حيث يجب أن تبدأ، إذ عادةً ما نرى مئات الكتابات في هذا الصدد تقترح للخروج من أزمة التخلف سياسات اقتصادية ذات مدخل آدائي/ خطي، من دون محاولة إثارة الكيفية، الجدلية، الَّتي تكون بها التخلف تاريخياً على الصعيد الاجتماعي في الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالي العالمي المعاصر بوجه عام، وعالمنا العربي، الَّذي هو أحد تلك الأجزاء، بوجه خاص. وأفضل ما أمكن تحقيقه هو الإشارة إلى الاستعمار، كتاريخ ميت، ثم القفز البهلواني، بعد الجهل بالتاريخ أو تجاهله بجهل، إلى اقتراح سياسات السوق الحرة.
3- عادةً ما يتم تناول إشكالية التخلف الاقتصادي العربي بمعزل عن إشكالية التخلف على الصعيد العالمي، أي دون رؤية الاقتصاد العربي كأحد الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالي العالمي المعاصر، وربما كان هذا ترتيب منطقي لتناول الإشكالية من منظور أحادي، يفترض التجانس ولا يرى سوى الطرح "التكاملي" والمنادة "المثالية" بالتكامل الاقتصادي العربي. وكأن البلدان العربية تعيش خارج الكوكب. على الرغم من ارتباط (إنجاز) مشروع التكامل الاقتصادي العربي بالخروج من الرأسمالية؛ كنظام عالمي، باستبدال علاقات اجتماعية رأسمالية الطابع بعلاقات ذات طابع اجتماعي/إنساني. علاقات ترتكز على فك الروابط مع الإمبريالية العالمية من خلال مشروع حضاري لمستقبل آمن.
4- السؤال الأهم، وهو غالباً ما لا تتم الإجابة عليه، هو: لماذا بعد أن خرج الاستعمار، الَّذي شوه الهيكل الاقتصادي وسبب التخلف، لم تزل بلدان العالم العربي متخلفة؟ هذا السؤال من المعتاد تجاهله، من قبل النظرية الرسمية، وبالطبع من قبل المؤسسات المالية والنقدية الدولية، والانتقال، الكوميدي، إلى: كيف نخرج من التخلف "بالتكامل"؟ وهنا نرى سيلاً من المقترحات (المدرسية/الرسمية) الَّتي لا تعرف ما الَّذي تقترحه للخروج من الأزمة. لأنها في الغالب لا تعرف ما الَّذي تبحث عنه؛ وذلك أمر منطقي، أيضاً، حينما لا تعرف هذا المقترحات ماهية التخلف ذاته، على الرغم من أن الحديث عن التكامل الاقتصادي يكون عديم المعنى والفائدة معاً إذ لم يقترن بالبحث الموازي في ظاهرة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في بلدان العالم العربي، وإنما، وهذا ضروري فكرياً وواقعياً، كأحد الأجزاء المتخلفة (وغير المتجانسة) من النظام الرأسمالي العالمي المعاصر، من جهة درس ماهية ظاهرة التخلف ومحدداتها وكيفية تجاوزها التاريخي؛ فلن يمسي مقنعاً الحديث عن تكامل اقتصادي عربي من دون الحديث عن كيفية هيكلية لتجاوز التخلف ذاته، وإنما ابتداءً من إعادة النظر في التراكم المعرفي في حقل نظرية التخلف ذاتها.
5- ولأن النظرية الرسمية(النيوكلاسيكية في مجملها) هي المعتمدة للتلقين في المدارس والمعاهد والجامعات في عالمنا العربى؛ فالنتيجة هي الإعدام اليومي لمئات الآلاف من الطلاب، الَّذين يتم تلقينهم صباحاً ومساءً بيانات الفقر وعدد المرضى والجوعى، ويقال لهم أن هذا هو التخلف بعينه، وإذ ما أردتم الخروج ببلادكم من هذه الحالة فلتنظروا إلى ما يفعله صُنّاع القرار السياسي الاقتصادي في الغرب الرأسمالي، وأفعلوا ما لا يَفعلون! لأنهم حقاً يستحون! كونوا أكثر طموحاً. افتحوا الأسواق. حرروا التجارة. عوموا العملة. لا تدعموا الفلاح، واتركوه نهباً للرأسمال المضاربي. سرحوا العمال. قلصوا النفقات العامة. ارفعوا أيديكم عن الأثمان. ساندوا كبار رجال المال. تخلصوا من القطاع العام. رحبوا بالرأسمال الأجنبي. وافعلوا ما تمليه عليكم المؤسسات المالية والنقدية الدولية، قدسوا نموذج هارود/دومار. لا تقرأوا إلا للنيوكلاسيك. جوفنز، ومنجر، ومارشال، وفالراس، وجوارتيني، وفريدمان، وكروجمان، وصولو، وغيرهم من الكينزيين والنقديين والحديين؛ طبعاً بعد أن يقال لهؤلاء الضحايا الَّذين يتم إعدامهم فكرياً يومياً في المؤسسات التعليمية في العالم العربي إن"الاقتصاد" هو ذلك الكم المكدس من الأرقام والمعادلات فى مؤلفات هؤلاء فقط، أما غيرهم فهم إما تاريخ مقبور، أو كفار ملحدون... ولكي تكون المحصلة النهائية، حينما يكون بأيدي هؤلاء الطلاب/الضحايا صنع القرار السياسي في بلادهم المتخلفة، هي المساهمة الأكثر فعالية في تعميق التخلف، وربما تسريع وتيرة تجديد إنتاجه.
إن اَّلذي يتم تلقينه للطلاب في عالمنا العربى، الَّذين يومياً يتم إعدامهم فكرياً، يرتكز على قاعدة رئيسية في الاقتصاد قوامها: ان كل شيء متوقف على كل شيء.
الطالب (الضحية): ما هو علم الاقتصاد؟
الأستاذ: هو ذلك العلم الَّذي يدرس الظواهر الاقتصادية.
الضحية: وما هي الظواهر الاقتصادية؟
الأستاذ: الظواهر الاقتصادية هي تلك الَّتي يدرسها"علم!" الاقتصاد!
الضحية: شكراً.
هؤلاء الطلاب هم الأجيال القادمة الَّتي سوف تتحمل مسئولية أمة!
(9)
الأدهى والأمر، أن الأساتذة. أساتذة الاقتصاد في الجامعات. الَّذين يتولون التلقين، لا يجدون أدنى غضاضة في أن يقولوا لهؤلاء الطلاب، الضحايا، ان الاقتصاد هو الاقتصاد السياسي، والاختلاف بينهما هو اختلاف، مزاجي، في الاسم، نتج عن تطور تاريخي! على الرغم من أن الفارق بين الإثنين هو كالفارق بين الخيال والحقيقة، بين الافتراض والقانون، بين التبرير والعلم.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.