كما في الدين، كذلك في اليسار. بعد سيطرة الإسلامَيين المذهبيَين، الشيعة والسنة، على الساحة العربية، يريد اليساريون تجديد فكرهم، إصلاحه، إعادة بعثه، بل “تثويره”، أحيانا: منكبّون على سبر أغوار فكرهم، على شحذ همّته المفهومية، على قراءة سطوره الخفية، لعلهم يجدون الداء الشافي لمرض الإرهاب الديني والفوضى العارمة. مثل الحريصين على إيمانهم، على جوهره وتألقه، يعتقدون في مكان ما من عقلهم، بأن يساريتهم، عقيدتهم، هي الأجدر بأن تُرفع الى مصاف الحاكم لمصيرنا، بدل الإسلامَين “الجهادي” أو “المقاوم”.


وهذه الفرضية التي يؤمنون بها، إيمانهم بعقيدتهم اليسارية، تجرّ فرضية أخرى، لا تقلّ عنها تواضعاً: بما ان الإسلام السياسي قد انقض علينا، فذلك يعني بأن شعوبنا تعاني من فراغ، لن يملأه غيرنا. فمن قواعد يساريتهم انهم أصحاب الصدارة في الأدوار؛ ودورهم الآن هو البحث عن الطريقة الفكرية في إضفاء الجاذبية على اليسار، ليكون هو البديل. ما يجرّهم مباشرة نحو السؤال المقدس: ما العمل؟ ما العمل بهذا الإنتصار الجارف للفراغ؟ ما العمل ليكون اليسار، أي نحن، هو صاحب الكلمة في تقرير وجهة أمتنا، ومصيرها؟ والحال، ان صفوف اليسار منقسمة إلى خطين متعارضين.

الأول، هو ذاك الذي استنفد كل أولوية عدائه لـ”الشر المطلق”، من امبريالية وصهيونية، المتآمرين علينا منذ المهد… فانضموا الى محور “المقاومة” الإسلامي الإيراني، على أساس انه يحرر فلسطين ويهزم الامبريالية. ولكن هذا المحور في طريقه الى الإتفاق مع الاميركيين لتوكيله بوظيفة شرطي منطقتنا؛ فيما اسرائيل تنقز، ليس لأن هذا المحور سوف يرفع ظلمها التاريخي عن الفلسطينيين؛ إنما لأنه ينافسها على هذه الوكالة. وبذلك يسقط من يد هذه الفئة من اليساريين موقفهم “الاستراتيجي” بدعم هذا المحور. وهم الآن ساكتون، إلا عن “معركة” نبيلة أخرى مع الامبريالية والصهيونية تشغلهم عن صمتهم: فكانت حربهم على الإسلاموفوبيا، التي يعرفونها، على انها اضطهاد للمسلمين، لا خوفا من تجليات الإسلام الراهنة، ونقدا لمحمولاته الدموية. في الضفة الثانية من اليسار، أولئك الذين لم يرتكبوا خطيئة خدمة الامبراطورية الإيرانية المعاصرة، اعتنقوا الليبرالية أو الديموقراطية أو “حقوق الأنسان” أو “المجتمع المدني”.

ولكن سباتاً فكريا ظل يلحّ عليهم، وليس في حوزتهم إلا فَضَلات أيام مضت، كانت حلوة بالنسبة لهم. ولكن هذه الفضلات لا تعينهم على تسمية ما يحصل حولهم، على وصفه، على منحه بعض المعنى؛ فما بالك لو كان المطلوب منهم ليس أقل من ملء فراغ فكري هائل يجتاح المنطقة؟ بما تعينهم الأنتي امبريالية؟ أو الأنتي صهيونية؟ أو الأنتي اسلاموفوبيا؟ أو الأنتي ليبرالية؟ بماذا يفيدهم أن يظلوا على عدائهم التقليدي لـ”الرجل الأبيض” وهجائهم المتواصل لـ”الإستشراق الاستعماري”؟ ماذا يضيفون في فهمنا لـ”الليبرالية” أو “الديموقراطية” أو..عندما ينوون استردادها الى يساريتهم؟ هل يكونوا بذلك يساريين إصلاحيين؟ أم يساريين كوريين شماليين، أو كوبيين؟ أم يساريين على الطريقة الصينية والروسية؟ ستالينيين في الحكم، ليبراليين متوحشين في الإقتصاد؟ أن تبقى يسارياً اليوم، وأن تصرّ على إعادة إحياء اليسار ليملأ الفراغ الذي سدّه التقاتل المذهبي بين أصوليتين، يعني انك كنتَ، في شبابك، يسارياً، وما زلت وفياً لشبابك؛ أو انك، لو كنت أصغر سناً، قد تكون تعرفت على يساري هرم، أو نشأت في بيت يساري، أو بيئة يسارية، كما نشأ مجايلون لك في بيئات محافظة يمينية أو رجعية.

يعني انك بالضرورة تقليدي، على طريقتك: تنتج الأدبيات الحديدية، التي أُدخلت اليها “تحسينات”، من باب العصر، ولكنك لم تكتب نصا جديداً منذ عهود. إذ انك، بثوابتك التي تعتز بها، لا تفعل أقل مما فعله الإسلامي، أو اليميني، أي معاندة للواقع. فبأية مادة فكرية يمكنك أن تملأ فراغاً، إذا بقيتَ تعتقد بأنك صاحب الإجابات الصحيحة، “عموما”، دائماً عموماً؟ وإذا بقيت تعتقد بأنه يكفي أن تضيف “الديموقراطية”، أو إحدى أخواتها، إلى “برنامجك” الجديد، حتى تجد الحل، الذي لا حل غيره؟

لا، ليس المقصود هجاء اليسار واليساريين، بل فقط القول بأن تبقى يسارياً اليوم يعني انك على درجة عالية من المعاندة الفكرية.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.