أن قراءة التاريخ المعاصر والقديم للمجتمعات العربية والإسلامية , مازالت بعيدة عن المنظور الفكر النقدي , أذ مازالت الأليات القديمة مستمرة في توليد التاريخ المعاصر . الشيء الجديد الذي تواجد و منذ فترة طويلة , منذ القرن التاسع عشر , حيث ظهر عدد من المثقفين النقديين الذين درسوا في الغرب , التي يمكن اعتبار المرحلة الأولى تمتد ما بين ( 1820- 1952 ) والتي مثلها مجموعة المثقفين اللبراليين , وبعدها مرحلة ما بعد عام 1952 حيث الثورات التحرر العربية من السيطرة المباشر للاستعمار ولغاية عام 1970 و المرحلة ما بعد عام 1979 أي بعد الثورة التي اطاحة الحكم في أيران و أستلام الإسلاميين السلطة .
   
كان يرادف هذه التغيرات صراع ما بين المثقفين الليبراليين ورجال الدين للسيطرة على الساحة الفكرية , وقد تمكن رجال الدين من السيطرة على هذه الساحة , من خلال تأكيدهم على أولوية العامل الديني و أسبقيته , وكانت هذه السيطرة مدعومة من قبل حكومات ( الحزب الواحد و القائد الأوحد ), التي ساهمت بتهميش دور المثقف النقدي أو أتهامة و نعته بالبرجوازي التابع للغرب وساهمت هذه الحكومات بالتبشير بالعودة الى التراث العربي و الاسلامي وراحوا يعيدون كتابة التاريخ ضمن أيديولوجيتهم و منظورهم القومي الضيق الساعي الى تمجيد الأمة العربية دون غيرها , لقد كان ل ( جمال عبد الناصر ) دور كبير في أعادة الحياة الى الأزهر , ومَن أطلع على كتاب الكاتب ( سمير أمين ) مذكراتي يجد , كيف أخذت هذه المؤسسة الدينية بالنمو بعد أن كانت شبة ميتة و الحال نفسة في الأعوام الاخير للطاغية المقبور صدام في العراق , أذ اعطى للفكر الوهابي حرية العمل داخل العراق .

    أن أعادة نقد الفكر الديني العربي و الإسلامي من منظور , المنهج المادي تعتبر من المهام الضرورية لكافة الباحثين والمثقفين الثوريين , أذ مازال الفكر النقدي مشلول من جراء ( القيم المعنوية والبلاغية التقديسية للغة الوحي و ما لحق بها من أضافات الشريعة الإسلامية التي أثقلت عبر القرون بعشرات المواد من قبل الخلفاء والسلاطين بما يشتهون و بالتالي , أصبحت هي الأخر مقدسة بجهل كامل , لذا أغلب تراثنا وتاريخنا , تاريخاً ذاتيا سكونيا , لقطع صلته بجذوره الاجتماعية , أي بتاريخه الحقيقي الموضوعي .

    أن المنهج المادي التاريخي هو الطريق القادر على كشف العلاقة والرؤية الى التراث في حركته التاريخية , واستيعاب قيمته النسبية و تحديد ما لا يزال يحتفظ منها بضرورة بقائه وحضوره في عصرنا الحالي , واعتباره شاهد على أصاله العلاقة الموضوعية بين العناصر التقدمية من التراثنا الثقافي وثقافتنا في الوقت الحاضر .

    أن عجز الحكومات البرجوازية التي قادت الشعوب العربية و الإسلامية , من فهم واستخدام الموروث الثقافي الإسلامي , يتجلى في تجاهل طابع الاجتماعي لهذا التراث , ليؤكد جوانبه الذاتية و كونه إنجازا فرديا أوجدته نخبة بمعزل عن علاقتها بالواقع الاجتماعي و بالقوى البشرية المنتجة ودورز هذه القوى في أنتاج الاساس المادي لمنجزات التراث , حيث أضهرت وابرزت الأشكال الغيبية التي تمجد الطاعة والخنوع لي ولي الأمر , وتجاهلت الصلات المتبادلة بين التراث الثقافي العربي والإسلامي والثقافات القومية العالمية الأخرى , وهذا النهج وجدها تقترب من النظريات العنصرية الأوربية , أمثال الشاعر الإنكليزي صاحب الكلمة الشهيرة ( الشرق شرق و الغرب غرب , ولن يلتقيا ) ونظرية ( مركزية الفلسفة ) و التي تعني نفي وجود فلسفة في غير أوربة , هذه النظرية التي سعت الدول الأستعمارية الأوربية من خلالها تبرير احتلال دول الشرق .تحت ضغوطات النظريات العنصرية الأوربية , نجد مواقف القومية البرجوازية من التراث تتجلى في بدعة تحديثه و قسر أفكار الماضي على التطابق والتماثل بينها وبين أفكار الحاضر , فقد رأيناها تحت تسميات عدة ( الأشتراكية العربية , الاشتراكية الإسلامية ) ,
حيث وجد بعض دعاة الاشتراكية الإسلامية , في سيرة العظيم أي ذر الغفاري ,دعامة لفكرهم , في حين أن سلوك الأخير وأفكاره , كانت بذرة ثورة في وضع تأريخي ظهر فيه استغلال و استئثار الدولة الأموية , القطاعية الجديدة , لغنائم مادية , كان من المفترض أن تنفق على المعوزين من سكان الأمصار الإسلامية .

    حول هذه العلاقة بين التراث وحاضرنا العربي و الإسلامي , يرى الشهيد ( حسين مروة ) , حل مشكلة العلاقة , يتوقف على توافر الوضوح العلمي لدينا عن حقيقتين " أولاهما , حقيقة المحتوى الثوري لحركة التحرر الوطني من حاضرنا و في أفاق تطورها المستقبلي و ثانيتها , حقيقة الترابط الجوهري بين ثورية هذا المحتوى و ثورية الموقف من التراث " بمعنى كون الموقف من التراث منطلقاً من الحاضر نفسة , أي من الوجه الثوري لهذا الحاضر .

    هنا يضعنا الكاتب في موضوعة التراث نفسة و معرفة هذا التراث , أذ معرفة التراث اضافة خارجية ترد الية من مصادر متعددة , لقد كتب و ناقش العديد من الباحثين و الكتاب حول التراث , وكلاً توصل الى معرفة من هذا التراث وكانت أغلب الأحيان مختلفة , ويكمن وراء هذا الاختلاف موقف أيديولوجي وهو بالأساس موقف طبقي . حتى النظرة السلفية المنتعشة في المجتمعات العربية والإسلامية وفي حلبة الصراع الأيديولوجي ليست خارجة عن منطق هذه الحقيقة , حين يظهرون الإصرار على رؤية الحاضر من خلال الماضي , دون العكس , هو صيغة من صيغ الأيديولوجيات المتحاربة المعاصرة .

    أذن , يمكن القول أن معرفة التراث من قبل القوى الثورية في حركة التحرر العربية والإسلامية تحتاج الى منهج معرفي ثوري الاستيعاب التراث وصورة التراث كما يكشفها المنهج الثوري والذي يميزها عن المناهج البرجوازية والاستعمارية , أن المنهج ثوري , أذ يوصف بالمنهج المعرفي , يقضي أن يكون مبني على قاعدة فكرية تعبر عن أيديولوجية ثورية , نابعة من الطبقات والفئات الاجتماعية التي ترتبط مصالحها الطبقية بمطاليب التغير الثوري , يغير الأوضاع والمؤسسات الاقتصادية و الاجتماعية والتشريعية والسياسية وهذه القوى ذات الدور الأساسي في عملية الإنتاج المادي والروحي للمجتمع .

    أما صورة التراث , يرى المنهج المعرفي ويبني نظرته الجدلية الى علاقة الحاضر بالماضي , كون معرفتنا بالتراث نتاج علم وايديولوجية معاصرتين , لا يستوعب التراث ألا في ضوء تاريخية حركته ضمن الزمن التاريخي الذي نمى فيه , ضمن البنية الاجتماعية والاقتصادية السابقة , ضمن المعايير التي كانوا يستخدموها في حل مشكلاتهم وهي بالتالي لا تناسب مع مستوى تطور المعرفة في عصرنا الحاضر .

    أن الذين كتبوا في التراث الفكر العربي و الإسلامي يمكن تصنيفهم حسب منهجهم الى الأساليب الفكرية التالية :

    أولا : أسلوب النظر الى تاريخ تطور الفكر و ضمنها الفكر الفلسفي , على أنه نتاج فكر ( شخصي ) , دون النظر الى العملية التفاعلية بين الفكر الشخص و الأفكار المتواجد في ذلك المجتمع وارتباطها في ( علاقة الاقتصادية و السياسية والاجتماعية ) , وهنا تكمن مثالية وقصر هذا الاسلوب .

    ثانيا : أسلوب حصر ثقافات الشعوب , على أنها نقل ثقافة شعب الى شعب أخر , لكي تسيطر على تفكير الشعب الذي أنتقلت الية , بشكل خاص حيث يتم التحدث عن الفلسفة العربية و الإسلامية من قبل المستشرقين الأوروبيين وزعمهم أن الفلسفة العربية والإسلامية ليست عربية بل هي نسخة عربية للفلسفة اليونانية وهذا الزعم يرجع بشكل خاص الى الفيلسوف الفرنسي ( أرنست رينان ) في كتابة ( التاريخ العام والمنهج المقارن للغات السامية ) .

    ثالثا: أسلوب النظر في تميز الثقافات القومية على أساس عرقي ( عنصري ) وهي مبنية على الأيديولوجية استعماريه وكل ما يتعلق فيها يدور حول ( نظرية الجنس البشري ).

    رابعا : أسلوب النظر التاريخي في التراث , التي تنطلق من أسس المنهج المادي التاريخي و الذي سوف يستخدمه كاتب هذ السطور في بقية المقالة او الدراسة .

    لا بد من توضيح موضوعة هامة و التي تتجاهلها الأساليب الثلاثة الأولى هي ( الوضع التاريخي ) هذا المعَين في تحديد ما هية هذه النزعات المادية في التراث الفلسفي بشكل خاص , أذ توجد عوامل محددة لطابع ( الوضع التاريخي )

    ثانيا: طابع أسلوب الإنتاج الإقطاعي المتواجد مع العبودية المنحلة بالإضافة الى القطاع التجاري المتنامي مع وجود نمو للصناعات الحرفية ( بشكل واضح في العصور العباسية ) .

    ثانيا : طابع التطور المعرفي بالعلوم الطبيعية ( الرابع الهجري _ القرن العاشر الميلادي ) .

    كان ذلك واضحاً في أسلوب الإنتاج الفلسفي الذي تميز بالنزاعات ( الميتافيزيقية , و الشبة مادية و بدايات المنطق الدياليكتيكي ) , أذ تناولت المواد الفلسفية حول الحركة و المكان و الزمان و علاقتهم في المادة , ذلك واضح في كتابات الفلسفية لدى ( الفارابي و أبن سينا ) , أذ تناول الأخير العلاقة بين العام و الخاص في قوله ( يمكن أن يكون العام ( الماهية ) داخل الخاص ( الشيء ) هذا هو موقف هيجل . يمكن أن يكون العام بعد وجود الأشياء ) وهو موقف مادي . وسأحاول في الجزء القادم التطرق بشكل واسع عن مساهمات فلاسفة بلدان الشرق في اثراء الفلسفة العالمية .

    بالإضافة الى العامل الاول و الثاني توجد عوامل أخرى , لا تقل أهمية :

    عامل الصلة المتبادلة بين الظرف الخاص لكل بلد او قومية و بين الظروف الخارجية و أهمية هذه الصلة التي تصب في تطوير الفلسفة وتحدد شكل تطورها وهذا التلاقح بين الأفكار يدحض فكر وأدبيات النظريات العنصرية حول موضوعة ( الحضارات المقفلة ) , وبكلمة أخرى أن الشعوب كلها تساهم في بناء الحضارة الإنسانية وكلاً منها يمر بالمراحل البشرية و الاقتصادية و الاجتماعية ولكن بطريقة مختلفة بعض الشيء .

    ميزة الاستقلالية النسبية للفلسفة , أذ كل جيل يجد أمامه علاقات مادية موضوعية وأفكار تعبر عن أيديولوجيات تطوره قبله وهو يضيف افكار أخرى وهذا التراكم الكمي يؤدي الى تبلور أفكار و نظريات جديدة .

    من هنا تأتي أهمية المنهج المادي للتاريخ من كونه , يدرس التراث الثقافي العالمي و القومي و يقوم على الحفاظ على التراث الإنساني , لا لذاته كتراث بل لأكتشاف ما يكمن فيه من عناصر التفكير البشري ذات الطابع المشترك بين مختلف أجيال البشرية ( حسب تعبير لينين ) .

    وفي هذا الصدد أود التطرق الى بعض النظرات العدمية التي عرفها بعض المجتمعات العربية :

    أولا : في الثلث الأول من القرن الماضي , بشكل دعوة الى استبدال الحرف العربية بالحروف اللاتينية لقطع العلاقة مع التراث . ( مازن غصن , سعيد عقل في لبنان )

    ثانيا : مصر للمصريين , وبعد حرب حزيران 1967 العربية _ الإسرائيلية , أن الهزيمة في هذه الحرب ترجع الى عوامل حضارية ( عبد العزيز فهمي و سلامة موسى )

    ثالثا : ندوة الكويت 1974 , جاءت الفكرة ألغاء التراث ضمنية . وكانت لطروحة المفكر الشهيد ( مهدي عامل ) في كتابة ( ازمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازية العربية ) . تفنيد لهذه الاقاويل وتعرية للبرجوازية العربية الحاكمة .

    وفي هذا المضمار أود ذكر موقف المفكر الراحل ( محمد أراكون ) يقول : ( لقد أثبتت اللغة العربية في العصر الكلاسيكي مقدرتها على أستيعاب الثقافات و الفلسفات المتنوعة ( كالجاحظ و التوحيدي ) , ولكن يعترف أيضا أن اللغة العربية , قد دخلت مرحلة السكولاستيكية التكرارية بعد القرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي ) ونامت طويلا حتى القرن التاسع عشر وانغلقت على ذاتها , لذا ينبغي علينا , بحسب محمد أراكون , توليد مصطلحات وصياغات تعبيرية علمية و علمانية جديدة في اللغة العربية , قبل أن نتصدى لدراسة الظاهرة الدينية , وما يدور من نقاش حول مشكلة الله , التاريخ العقائد والأنظمة الدينية وغيرها دون أن يتهم المرء بالكفر أو مهاجمة المقدسات .

    وكان من أدباء العربية المخلصين للغة المتبحرين بأكثر من لغة أجنبية أديب لبناني هو ( سليمان البستاني ) قرأ الإلياذة وأعجب بها ورأى أن ينقلها الى اللغة العربية , واستدعاه ذلك أن يجد لفظة تقابل ( أبوس) اليونانية فاهتدى بالدرس والتأمل والمقابلة الى كلمة (( ملحمة )) . فكان أول من أوجد الكلمة التي نستعملها اليوم مصطلحاً وكأنه قديم قدم اللغة العربية , وكان ذلك في بداية القرن العشرين .

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.