“(...) لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ شَأْنَ الحِسِّ أَنْ يُورِثَ المَلاَلَ وَالكَلاَلَ، وَيَحْمِلَ عَلَى الضَّجَرِ وَالانْقِطَاعِ، وَعَلَى السَّآمَةِ وَالارْتِدَاعِ. وَهَذَا مِنْهُ فِي ذَوِي الإِحْسَاسِ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ، وَقَائِمٌ مَوْجُودٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الأَمْرُ فِي المَعَادِ إِذَا فُرِضَ مِنْ جِهَةِ العَقْلِ، لِأَنَّ العَقْلَ، لاَ يَعْتَرِيهِ المَلَلُ، وَلاَ تُصِيبُهُ الكُلْفَةُ، وَلاَ يَمَسُّهُ اللُّغُوبُ ، وَلاَ يَنَالُهُ الصَّمْتُ، وَلاَ يَتَحَيَّفُهُ الضَّجَرُ.”
التّوحيدي، المقابسات، المقابسة 35
*
“وقال أبو الدَّرداء: إنِّي لأُجمُّ نفسي ببَعْض الباطل، كراهةَ أنْ أحمِل عليها من الحقّ ما يملُّها.”
الجاحظ، الحيوان، ج3، ص7.

*
“(...) فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق، إذا بعبد أسود قد استقبله، بين عينيه تراب من أثر السّجود في شَمْلَةٍ قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى عليه السّلام بنور الله عزّ وجلّ. فسلّم عليه، وقال له: ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ قال فأنت طلبتنا منذ حين، اُخرج فاستسق لنا. فخرج، فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الّذي بدا لك؟ أَنَقُصَتْ عليك عُيونُك أم عاندت الرّياح عن طاعتك أم نفد ما عندك أم اشتدّ غضبك على المذنبين؟ ألست كنت غفّارا قبل خلق الخطّائين؟ خلقت الرّحمة وأمرت بالعطف أم ترينا أنّك ممتنع أم تخشى الفوت فتعجّل بالعقوبة؟ قال فما برح حتّى اخضلّت بنو إسرائيل بالقطر ، وأنبت الله تعالى العشب في نصف يوم حتّى بلغ الرّكب. قال: فرجع برخ، فاستقبله موسى عليه السّلام، فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربّي كيف أنصفني؟ فهمّ موسى عليه السلام به، فأوحى الله تعالى إليه: إنّ برخا يضحكني كلّ يوم ثلاث مرات”
أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج4، ص341
*
1 - آفة العلم النّسيان

“الآفة: العاهة... عرَض مفسد لما أصاب من شيء. ويقال آفة الظّرف الصّلف، وآفة العلم النّسيان، وطعام مؤوف أصابته آفة.”، و“العاهة، أي الآفة الّتي تصيب الزّرع والثّمار فتفسدها... العاهة البلايا والآفات...” لسان العرب

إذا انطلقنا من العبارة الشّائعة الّتي تقول: “آفة العلم النّسيان”، واعتبرنا الآفة عاهة، أي هي تشوّه أو عطب أو تعطّل، أو “عَرَضٌ مُفْسِد” يصيب الجسم فيجعله عليلا، أو يعصف بالعقل فيجعله هائما “مُسْتَبَاهًا” (1) لا يعقل، فإنّ العلم إذا ما أصابته آفة النّسيان تغيّر شكله ومحتواه، بنقصان في كمّه يفضي إلى تغيّر جذريّ في كُنْهِه وكَيْفه. فعلم بصمه النّسيان إنّما هو علم قد أصابته “آفة النّسيان”، فنقص بعد تمام، أو تغيّر بزيادة مفرطة، أو مُحِيَ رسمُه. وعندما يتغيّر العلمُ على هذا النّحو بسبب “آفة النّسيان” نكون أمام حال مَرَضِيَّةٍun état pathologique ، لأنّ المَرَضِيَّ le pathologique يتحدّد بكونه تحويرا في الكمّ والكيف، يطرأ على الحال السّويّة un état normal (2). هذا التّصوّر للمرضيّ الّذي ينطلق من الحال السّويّة ليعتبر كلّ ما يطرأ عليها من تغيّر مَرَضِيًّا، إنّما يعتبر المَرَضِيَّ حالا غير سويّة، والمرضَ شيئا كالخسران أو الافتقار الّذي يحرم ما كان سويّا من نعمة السّلامة والصّحّة. وعلى هذا المنوال نُظر إلى النّسيان. فهو آفة كالمرض، أو عاهة تُفسد الجسد، فتعوق عضوا منه، أو تُبطل الفعل، أو تُذهب العقل، أو تُعطّل النّشاط و
الإنتاج...

فالنّسيان يشتغل، في الوعي اللّغويّ على الأقلّ، على شاكلة قوّة من قُوى الفساد، تُدخل الضَّيم على اللّسان والعقل والعمل، فتفسد القوى المُنْتِجة، فتأتي على البيان، وتقضي على العلم، وتُجْهِزُ على الفعل، فلا معنى ينشئه بيان، ولا فكر يبدعه علم، ولا بضاعة ينتجها فعل. وعلى هذا الأساس كان النّسيانُ نقيضَ العلم، فهو الآفة الّتي تفسده، وتجعله نسيا منسيّا. ولعلّه لأجل ذلك كانت مقاومة النّسيان ممكنة لأنّ العقّار الّذي يقاوم الآفة هو نشاط المُذاكرة. فالعلمُ الّذي يُذاكر لا تصيبه الآفات. فالتّكرارُ اليوميّ للعلم وتفقّدُه بالمراجعة والتّعهّد، إنّما هي أعمال مقاومة. وهي تشتغل كما يشتغل جهاز المناعة، تحمي العلم وتصونه حتّى يستمرّ في الزّمان ويدوم، وتُحافظ عليه حتّى يظلّ سويّا، هذا إذا سلّمنا بأنّ السَّوِيَّ يتحدّد بقواعد أو بالنّاموس nomos الّذي تحدّده الصّناعة، أو أهل الصّناعة في علم من العلوم، أو فنّ من الفنون. وإذا استحضرنا في هذا السّياق المفهوميّ أنّ لفظ anomalie إنّما هو لفظ وصفيّ يستخدم لتعيين واقعة من الوقائع موسومة بالاضطراب والتّوعّر وعدم الانتظام، فابتعدت من جرّاء فوضاها désordre عن الغالبيّة العظمى من الوقائع الّتي

يمكن أن تقارن بها، وأنّ لفظ anormal (اللاّسويّ) إنّما هو لفظ معياريّ يتضمّن إحالة على قيمة مّا، جاز لنا أن نرى في عبارة “آفة العلم النّسيان” حكما معياريّا على حال من أحوال العلم المضطربة تطرأ عليه حين يشعر طالب العلم بالكلل والملل، فتحمله على ترك العلم وإهماله. هذه الحال إذا طال أمدها واستفحلت أصابت من العلم ما تصيبه آفة النّسيان. وهذا يحملنا على أن نتصوّر آفات العلم بمثابة قوى تمنع من تحصيله والمحافظة عليه أو صيانته. وهي تعمل، وإن اختلفت أسماؤها، كما تعمل آفة العلم، وهي النّسيان، بوصفها قوى محو وتحريف وقتل (بالمعنى الفرويديّ للكلمة)، تجعل أسباب تحصيل العلم وتنميته وحفظه غير ممكنة.


إنّ ما يقترحه الجاحظ، في بعض ما ورد من تأمّلات في كتابي “البخلاء” و“الحيوان” تخصّ سياسة الملل، لا يتمثّل في مقاومة هذه القوى، وإن كان يعتبر هذه المقاومة بالإقصاء حلاّ ممكنا، وإنّما يتمثّل في إقحام هذه القوى في صلب العلم، وإدماجه في حدثان تحصيله. فإذا كلّت النّفس من طلب العلم وسئمت من الازدياد منه وجب أن تُنشّط بتقديم معرفة من نوع آخر، وجعلها تُقبل عليه لتستريح من كدّ العلم وقراءة الكتب. فالآفة الّتي كانت تشوّه العلم فتحمله على إنتاج معرفة غير سويّة، لا تخضع للمعيار العلميّ الّذي تفرضه مؤسّسات العلم ولا تلتزم بشرائطه، إنّما هي قوى مضادّة للعلم يدعونا الجاحظ إلى مراعاتها والانصياع لها حتّى تستعيد النّفس نشاطها الأوّل، فتعود إلى سالف عهدها، أو حالها السّويّة. ما الّذي يمكن أن ينجرّ عن هذا التّصوّر؟


ينبغي أن نميّز بين العمل الّذي يقصي هذه القوى ليصون العلم من التّلف، وبين العمل الّذي يدمج تلك القوى لأنّها جزء من حدثان تحصيل العلم. للعمل الأوّل صلة بالأخلاق، فما يقصيه إنّما هي قوى الشّرّ Le Mal الّتي هي بالضّرورة قوى نقصان مقترنة بالألم والخطيئة والقبح. فالإقصاء هو ترجمة لـ“ما يجب أن يكون” «Devoir-être». أمّا العمل الّذي يدمج فهو ترجمان القوى السّلبيّة، بل هي ترجمان ما يسمّيه الفيلسوف، فرنسوا جوليان François Julien ، “السّلبيّ” le négatif (3). فـ“السّلبيّ” هو القوى الّتي تندمج في قلب العمل الّذي به تحصّل المعرفة. وإقصاؤها بنكرانها أو التّعفّف من ذكرها، يؤكّد وجودها وحضورها الملحّ. وقد ترجم الجاحظ وغيره من الأدباء حضور “السّلبيّ” بوصفه قوى إدماج بألفاظ مختلفة.
 

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.