النقلة من عصور الظلام الغيبية إلى عصور الأنوار العلمانية، إستغرقت وقت طويل، وقطعت طريق وعر، مفروش بدماء المفكرين والفلاسفة والعلماء، وقبل ذلك تم فرشهِ بكتاباتهم ودراساتهم وابحاثهم ومقالاتهم، والتي تم حرق اغلبها ومصادرتها في ظل التحالف الأزلي بين السياسي والديني، فتديين السياسة وتسييس الدين، لجعلهما توأم ملتصق المصالح والوجود، يجعل أي محاولة للتغيير في أي قطاع أمر شبه مستحيل، بل غالبًا يحتاج لحراك شعبي ضخم من خلفه، يعضده ويسانده وينير له الطريق.


وعلى مرّ التاريخ، كانت معظم الثورات الثقافية لها النصيب الأكثر في الدموية والإقصاء مقارنة بالثورات السياسية، فهي تمس كافة جوانب الحياة فى المجتمع في لحظة واحدة، وكأنها صدمة كهربائية شاملة، تتوسع لتشمل كل شرائحه وفصائله وطبقاته، على اختلاف دينهم وعرقهم وجنسهم، بل وحتى اعمارهم، تُحدث خلخلة لكافة الثوابت المجتمعية والأعراف العامة التراثية التقليدية، وهي مهمة ليست بالسهلة، وتحتاج فرشة تنويرية واسعة الانتشار، طويلة المدى، وفق برنامج مرسوم بعناية يغطي كافة الاحتياجات في مختلف المجالات.

وإذا نظرنا للمسيحية كنموذج، فقد نلتمس في النص الكتابي وتفسيراته الفكرية تطور ملحوظ ومؤثر، بالتالي يمكننا القول، على نفس القياس للمثل المشهور “قل لي كيف ترى نصك الديني… أقول لك من أنت”، فالنص الكتابي المسيحي خضع لعمليات تطوير وتفسير وتقويل وتأويل مستمرة، أفقدت جوهره المهيمن، لكل من الوزن والهيبة والقدسية التي كانت له في العصور الأولى، والأهم أفقدت وقعه التوجيهي في نفوس متلقيه، ولا نقصد هنا الجوهر الروحي الرعوي الإنساني الفكري للنص، والذي يخاطب وجدان وقلوب الناس بالإيمان والمحبة والتسامح.

وهذا على عكس نظيره النص الإسلامي، الذي مازالت حتى الآن، محاولات تفكيك دوجمائيته بائسة، تقابلها السيوف والعبوات الناسفة والمليونيات التي تهاجم أقل رسمة كاريكاتير!!.

مراحل التطور في فهم وتلقي النص، ربما واكبها تطور أولى في وعي المتلقين بالضرورة، علاقة قائمة على التأثير والتأثر، وعمليات من الشد والجذب، والقوة واللين، بين السلطة السياسية الدينية، وفي الجانب الآخر القوى المدنية التنويرية، معركة مستمرة مستعرة، كل منهما يحاول كسب أرضية من الآخر، في سبيل توصيل فكرته، وإن كان الجانب الثاني يستخدم القلم والورقة، المنهج والفكر لإستشراف المستقبل، نجد الجانب الأول لا يفهم سوى لغة القبضة العليا الحديدية التي تزج بالمعارض المختلف المُخالف في غياهب السجن والمنفى.

وإنطلاقا من الضغط المدني العلماني، الموضح لدور وأبعاد المؤسسات الدينية، وتراجع قوى وسطوة الغيبيات والمعجزات، والمطالب بإعادة النظر النقدية في النصوص وتاريخانيتها وتفسيراتها وطرق التعاطي معها، تطورت بالضرورة نظرة رجال الكنيسة للنص، وبالتالي أتباعهم، على عدة مستويات، وكان كل منها مدعوم بالكثير من الآيات سنورد هنا بعضها:

الله هو مؤلف الكتاب المقدس، والحقائق الإلهية الموحى بها، والتي تحتويها وتعرضها نصوص الكتاب المقدس صحيحة بإطلاق على مدى الدهور، إنه هو [أي الرب] هو الفاعل من خلال كتبة الكتاب المقدس، يكتب من خلالهم. ولذلك، فإنه أعطى الضمان الأبدي، بأن ما كتبوه يُعلمنا الحق بدون أي احتمال للخطأ، فالإنجيل هو البشارة المُفرحة؛ “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرّ” (تيمو 3: 16). “اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ” (متى 24: 35). “لا يمكن  أن يُنقض المكتوب” ( يوحنا 35:10 )، “لا أنقض عهدى، ولا أغير ما خرج من شفتي” (مزمور 33:89  و34).

الرسل والأنبياء والتلاميذ كتبة الأناجيل هم بشر عاديين وليسوا معصومين، والكتاب المقدس كنصٍ هو مجرد إلهام للأنبياء بواسطة الروح القدس، الروح لا يُملي مباشرة، الروح لا يُخطيء، فهو الأقنوم الثالث المساوي لنظيريه، بل يعطي الفكرة ذهنيًا فقط، ويترك لكل شخص حرية التعبير عنها وفق لغته ومفرداته وثقافته ورؤيته وطريقته السردية، بالتالي ليس هناك إطلاق في صحة الكتابات، وإن حدث وداخلها بعض التناقض أو الاختلاف في السياق العام الشامل، فهو ليس تحريف، بل نقائص وشوائب شخصية من الكتبة أو في الترجمة أو في التجميع والترتيب، “رُوحُ الرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي”(2 صم 23: 2). “ونحن لم نأخذ روح العالم. بل الروح الذى من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله التى نتكلم بها أيضًا، لا بأقوال تعّلمها حكمة إنسانية، بل ما يعلمه الروح القدس”( 1 كورونثوس 12:2 و 13 ). “تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس”(2 بط 1: 21). وكان في الكنائس قبل قراءة فصل الإنجيل في قداس الجُمع والآحاد يقول الكاهن “فصل من بشارة الإنجيل بحسب ما كتبه …..”.

الكتاب المقدس، ليس مقدس!!، بل مجرد كتاب أدبي قصصي تراثي. والكنيسة الآن لا تُقدس حبر مكتوب على ورق، بل تقدس شخص الفادي الكلمة المتجسد فقط، وهناك مبالغة في دمج وجمع العهدين –القديم والجديد- ببعضهما البعض، نتيجة تلك الشوكة اليهودية التي غرسها بولس الرسول بخاصرة الثقافة المسيحية في مهدها الأول، مما أحدث إنسراب معرفي لليهودية لتلّقِح وتُبذِر نفسها في أرضية المسيحية –الدين الناشيء- وتنمو وتكبر معها. البشارة المفرحة هي شخص يسوع، وهو محور الكتاب الذي يخبرنا عنه. ولو تم موازنة تقييمية للكتاب المقدس، لما صمد منه إلا الموعظة على الجبل والأمثال. “وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ”(أع 4: 12). “أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ. الأَوَّلُ وَالآخِرُ.”(رؤ1/11). ” أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي… إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً” (يو 14: 6/ 23).

 وهكذا قطعت الثقافة المسيحية شوطًا كبيرًا في طريقها إلى العلمانية، دون شعوذة تجديد الخطاب الديني ولي عنق الآيات والنصوص والأحداث التاريخية، ودون حذف نصوص الدماء والقتل والذبح من بين صفحات كتابها، ودون حرق كتب الآباء التحريضية، بل تم نزع السُم من الثعبان وإستئصال خطره وتركه يلعب مع الأطفال بكل أريحية، من خلال فهم سياقية النص الإنساني وفق زمانه ومكانه، وفتح باب النقد العالي والمنخفض على الكتاب دون أي شعور برغبة في القتال وإسالة الدماء من أجل حبر على ورق، فلا يُرد على الكلمة إلا بالكلمة، وعلى المقال إلا بالمقال.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.